سورة الأنعام
19
في بعض التفاسير أنّ أهل مكة أتوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: أما وَجَدَ الله رسولاً غيرك ما نرى أحداً يصدّقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذِكر فأرِنا مَن يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فنزلت هذه الآية ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً))، أي أعظم من حيث الشهادة، حتى آتيكم به دليلاً على صدقي وصحة نبوّتي، إنهم يتحيّرون في الجواب طبعاً، ويفكّرون في أفراد الإنسان العظماء بنظرهم ليقولوا: فلان، لكن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقطع تحيّرهم وتفكّرهم بما علمه الله سبحانه ((قُلِ)) يارسول الله ((اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ))، أي هو شاهد يشهد بصدق نبوّتي، وقد مرّ سابقاً أنّ شهادة الله هو إجراء الإعجاز على يده الكريمة ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ)) أنزله تعالى عليّ ((لأُنذِرَكُم بِهِ))، أي أخوّفكم بسببه من العقاب لمن كفر وعصى ((وَمَن بَلَغَ)) عطف على (كم)، أي أنذر به مَن بَلَغه هذا القرآن إلى يوم القيامة، وروي عن الباقر والصادق (عليه السلام): "إنّ (مَن بَلَغ) معناه مَن بَلَغ أن يكون إماماً من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله"، وعليه فهو عطف على الضمير المرفوع في "أنذر"، أي أُنذِر أنا الرسول والأئمة -الذين هم مصداق (مَن بلغ)- للناس ((أَئِنَّكُمْ))، أي هل أنكم أيها السامعون الكفار ((لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى)) إنه إستفهام إنكاري، أي كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلّة التوحيد وقيام الحجّة والبرهان على بطلان كل شريك، والمراد الشريك مطلقاً لو كان واحداً، وذَكَرَ (آلهة) من باب المورد ((قُل)) أنت يارسول الله إذا لم يعترفوا أولئك بالتوحيد ((لاَّ أَشْهَدُ)) أنا بمثل شهادتكم بالشريك وإنما أنا لا أعتقد إلا إلهاً واحداً ((قُلْ)) يارسول الله ((إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) لا شريك له ((وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ))، أي من الأوثان التي تُشركون بسببها وتدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.
سورة الأنعام
20
ثم ذَكَرَ سبحانه أنّ أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ))، أي أعطيناهم ((الْكِتَابَ)) يُراد به الجنس الأعم من التوراة والإنجيل وغيرهما ((يَعْرِفُونَهُ))، أي يعرفون الرسول ((كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ)) فكما يعرف الشخص إبنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره، وكذلك لا يشتبه أهل الكتاب يعرفون الرسول بوصفه ومزاياه الموجودة في كتبهم ((الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ)) بأن باعوها بالكفر، المتعقّبة ((فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) إنّ عدم الإيمان مترتّب على الخسران، فالخاسر لا يؤمن والرابح يؤمن.
سورة الأنعام
21
((وَمَنْ أَظْلَمُ))، أي مَن يكون أكثر ظلماً وتعدّياً عن الحق ((مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا)) بأن جَعَلَ له شريكاً وزَعَمَ أنّ الله أمَرَه بذلك كأهل الكتاب وكقسم من المشركين الذين كانوا يقولون أنّ الله أمَرَنا باتخاذ الأنداد والشركاء ((أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) كما لو كذّب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعاجز، فإنها كلها من آيات الله سبحانه، لكن الكتاب آية صامتة، والرسول آية ناطقة ((إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) أنهم لا يفوزوا بخير الدنيا ولا سعادة الآخرة.
سورة الأنعام
22
((وَ)) اذكر يارسول الله ((يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)) وهو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون وسائر المكذبين ((ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ)) وجعلوا لله شريكاً ((أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ))، أي الشركاء لله الذين زعمتوها، والإضافة إلى (كُم) باعتبار أنهم إتّخذوها كما تُضاف إلى (الله) باعتبار أنه سبحانه المجعول في رد يُفهم فيُقال: شركائي ((الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) أنهم شركاء لله سبحانه؟ واستفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.
سورة الأنعام
23
((ثُمَّ)) بعد هذا السؤال منهم ((لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ))، أي معذرتهم فإنّ الفتنة على معان منها المعذرة، أو هو على سبيل المجاز، أي لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام إلا التبرّي منها، كما يُقال: لم يكن درسهم وقضائه إلا رشوة وخيانة، يُراد أنّ عاقبتهما كانت الرشوة والخيانة ((إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) فيحلفون بالله كذباً أنهم ما كانوا مشركين كما إعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذباً حينما يقعون في المشاكل.
سورة الأنعام
24
((انظُرْ)) يارسول الله إلى حلف هؤلاء ((كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) بأنهم ما كانوا مشركين، وهذا أمر يُقصد به التعجيب والإستغراب ((وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ))، أي ضلّت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويفترون الكذب على الله بقولهم هذه شفعائنا عند الله، فلم يجدوها ولم ينتفعوا بها وإنما الأمر لله وحده.
سورة الأنعام
25
قيل أنّ نفراً من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقرء القرآن فقال بعضهم لبعض: ما يقول محمد؟ قال: أساطير الأولين مثل ما كنتً أحدّثكم عن القرون الماضية، فنزلت هذه الآية ((وَمِنْهُم))، أي من الكفار المشركين ((مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ))، أي إلى كلامك يارسول الله ((وَ)) لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحُجّة بعد ما بيّن لهم ((جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)) هي جمع كنان وهي ما ستر شيئاً، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة إذ صار الإعراض له مَلَكة وعادة، ونسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا، فإنه علّة كل شيء، وإنّ السبب المباشر هو الشخص ((أَن يَفْقَهُوهُ))، أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه ((وَ)) جعلنا ((فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) الوقر هو الثقل في الأذن، فهم كمن لا يسمع حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم ((وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ)) ومعجزة خارقة على نبوّتك وصدقك ((لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا))، أي بتلك الآيات، إذ قدّر أنّ على قلوبهم ما كانوا يعملون ((حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ)) لا يطلبون الحق بل ((يُجَادِلُونَكَ)) ويناقشونك ((يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ))، أي ما هذا القرآن ((إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أساطير جمع أسطورة، بمعنى الخرافة، من سطر إذا كتب، يعني ما في القرآن من القصص والأحكام وغيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة وترهّاتهم.
سورة الأنعام
26
((وَهُمْ))، أي هؤلاء الكفار الذين سبق ذكرهم ((يَنْهَوْنَ عَنْهُ))، أي عن النبي، أو القرآن، يعني ينهون الناس عن إتّباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو القرآن ((وَيَنْأَوْنَ)) من نأى بمعنى تباعد، أي يتباعدون ((عَنْهُ))، أي عن الرسول أو القرآن، فهم يجمعون بين رذيلي الكفر والأمر بالمنكر ((وَإِن))، أي وما ((يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ)) فإنهم لا يضرّون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل يضرّون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة ((وَمَا يَشْعُرُونَ))، أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.