![]() |
![]() |
![]() |
|
منبر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المواضيع التي تخص ائمة الهدى (سيرتهم وهديهم) |
![]() ![]() |
|
![]() |
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#1 |
|
![]()
أدب الامام العسكرى (عليه السلام) يحتلّ الإمام العسكري (عليه السلام) موقعاً ريادياً في المجتمعات الإسلاميّة ، بالرغم من محاولات السلاطين المتنوّعة في إبعاد الجمهور عنه و صرف الإمامة الحقيقيّة عن شخصيّته ، حيث لم يحتجز الإرهاب و التعتيم الإعلامي عن تسليم الجمهور بإمامته و ريادته إسلامياً ، حتّى أنّ المؤرّخين يذكرون كيف أنّ السلاطين و ولاتهم قد اضطرّوا إلى تكريم الإمام العسكري (عليه السلام) و تقديمه على أيّة شخصيّة سياسيّة ، و تسليمهم بإمامته الحقيقيّة ، و بكونه نموذجاً للفضل و العفاف و الزهد و الهدى و النُبل و الكرم و سائر سمات الشخصيّة المتفردة ، . . . و هو أمر يكشف ـ دون أدنى شكّ ـ عن أنّ هيمنة الإمام (عليه السلام)ترتبط بقناة غيبيّة تفرض فاعليّتها على الجمهور ـ بما فيهم الأعداء ـ لتكون بذلك حجة في حقل تحمّل المسؤوليّة الّتي خلعها اللّه تعالى على الآدميين من خلال مفهوم خلافة البشر في الأرض . . . و المهم ، أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) يظل ـ مثل سائر المعصومين (عليهم السلام) ـ نموذجاً للشخصيّة العباديّة الّتي تمارس مهمة الإمامة في مختلف الصُعد ، و منها الصعيد الأدبي الّذي يُستثمَر لتوصيل مبادئ اللّه تعالى إلى الآخرين . . . و بالرغم من أنّ إمامة العسكري (عليه السلام) لم تمتد أكثر من ست سنوات ، . . . و بالرغم أيضاً من أنّ الفترة الزمنيّة للأئمة الأربعة ( الجواد ، الهادي ، العسكري ، المهدي (عليهم السلام) ) ـ كما ذكرنا سابقاً ـ لم تسمح لأسباب غيبيّة و اجتماعيّة بتقديم النصوص الفكريّة بنفس الحجم الّذي سُمِح من خلاله للأئمّة السابقين ( عليّ ، الحسنين ، السجاد ، الصادقين ، الكاظم ، الرضا (عليهم السلام) ) . . . بالرغم من ذلك كلّه ، يمكننا أن نظفر بنصوص أدبيّة للإمام العسكري (عليه السلام) : تعدّ امتداداً لنصوص مماثلة لسائر المعصومين في ميدان الرسالة أو المقابلة أو الحديث الفني . . . و إليك نموذجاً منها : أدب الرسائل الرسالة ـ كما كرّرنا ـ نصّ أدبي يوجّه إلى شخصيّة أو جماعة ، تتضمّن خواطر و أفكاراً عباديّة في مختلف القضايا . . . و يُلاحَظ أنّ الشخصيّة الّتي تُوجّه الرسالة إليها ، أو يُوجّه الحديثُ إليها في مقابلات خاصة ، كما لحظنا ذلك في توجيه الكلام إلى جملة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، كالإمام الباقر و الصادق و الكاظم (عليهم السلام)تظل بمثابة ( البطل في القصّة ) ، لكن في صعيد المخاطبة فحسب ، حيث شكّل ذلك أُسلوباً يتكرّر من خلاله اسم الشخصيّة المخاطَبة كما هو طابع الرسائل بعامة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ تكرّر الإسم و المخاطبة ينطوي على سرّ فنّي هو : شدّ الانتباه من جانب ، و طرد الملل من جانب آخر . . . و المهم ـ من ثَمّ ـ أنّ لغة الرسالة تُوشَّح بأدوات فنّيّة : لفظياً و إيقاعياً و صورياً ، و هو أمر يمكن ملاحظته في الرسالة الّتي وجّهها الإمام العسكري (عليه السلام)إلى أحد أصحابه و هو ( إسحاق النيسابوري ) جواباً لرسالة بعثها هذا الأخير إلى الإمام (عليه السلام) . . . جاء في هذه الرسالة : « . . . نحن بحمد اللّه و نعمته : أهل بيت نرقّ على أوليائنا ، و نسرّ بتتابع إحسان اللّه إليهم ، و فضله لديهم ، و نعتدّ بكل نعمة ينعمها اللّه تبارك و تعالى عليهم ، فأتم اللّه عليك ـ يا إسحاق و على من كان مثلك ، ممّن قد رحمه اللّه و بصّره بصيرتك ـ نعمته . . . و أنا أقول الحمد للّه أفضل ما حمده حامد إلى أبد الأبد بما منّ اللّه عليك من رحمته ، و نجاك من الهلكة و سهّل سبيلك على العقبة و أيُم اللّه إنّها لعقبة كؤود شديد أمرها ، صعب مسلكها ، عظيم بلاؤها ، قديم في الزبر الأولى ذكرها . . . فاعلم يقيناً ـ يا إسحاق ـ إنّه من خرج من هذه الدنيا أعمى ، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا . يا إسحاق : ليس تعمى الأبصار ، و لكن تعمى القلوب الّتي في الصدور . . . فأين يُتاه بكم ، و أين تذهبون كالأنعام على وجوهكم ، عن الحقّ تصدفون و بالباطل تؤمنون ، و بنعمة اللّه تكفرون . . . لولا محمد (صلى الله عليه وآله)و الأوصياء من ولده لكنتم حيارى كالبهائم ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها . . . رحم اللّه ضعفكم و غفلتكم ، و صبركم على أمركم ، فما أغرّ الإنسان بربّه الكريم ـ ولو فهمت الصمّ الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدّعت قلقاً و خوفاً من خشية اللّه و رجوعاً إلى طاعة اللّه . . . الخ »([1]) . إنّ هذه الرسالة ـ بالرغم من لغتها المترسّلة ـ تحفل بعناصر فنّيّة متنوعة : إيقاعياً و صورياً و لفظياً . أمّا إيقاعياً فيمكن ملاحظة الجمل المقفّاة من نحو ( إليهم ، لديهم ، عليهم ) و من نحو ( لو فهمت الصمّ الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب ) . . . و أمّا لفظياً ، فإنّ ( التساؤل ) و ( الحوار ) و ( التكرار ) تظل عناصر ملحوظة في هذه الرسالة ( فأين يتاه بكم؟ ) ( و أين تذهبون؟ ) ( فما أغرّ الإنسان؟ ) . . .الخ . و أمّا صورياً ، فإنّ الرسالة تحفل بعنصر صوري متنوع ، حيث نلحظ ( الصورة التضمينيّة ) بنحو لافت للنظر بخاصة تضمين القرآن من نحو ( سهّل سبيلك على العقبة ) ( من خرج من هذه الدنيا أعمى ) ( لتصدّعت قلقاً و خوفاً ) . . . كذلك تضمين الحديث النبوي ( و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها ) ، كذلك تضمين الحديث العلوي ( لو فهمت الصمّ الصلاب . . . ) . . . كما نلحظ خلال هذه التضمينات و سواها تنوّعاً في الصورة من تشبيه ، و استعارة ، و رمزاً ، و استدلال ، و فرضيّة من نحو : ( و أين تذهبون كالأنعام ) ـ تشبيه ، و من نحو : ( إنّها لعقبة كؤود ) ـ تمثيل ، و من نحو : ( صعب مسكلها ) ـ استعارة ، و من نحو : ( و هل تدخل مدينة . . . ) ـ استدلال ، و من نحو : ( لو فهمت الصمّ الصلاب ) ـ فرضيّة ، . . . إذن : لحظنا صوراً فرضيّة و استدلاليّة و تمثيليّة و استعاريّة و تشبيهيّة ، . . . و هذا التنوّع في الصياغة الصوريّة يكسب الرسالة مزيداً من الجمال الفنّي كما هو واضح . . . و الأهم من ذلك أنّ هذه الصور صيغت تلقائيّة قد فرضها السياق الفكري و ليس مجرد تنميق ، كما هو طابع الرسائل الّتي يكتبها العاديون من البشر . . . فعندما يصوغ النصّ صورة ( تضمينيّة ـ استدلاليّة ) من نحو ( و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها ) إنّما يستهدف من ذلك توضيح حقيقة تشكل جوهر الرسالة الّتي تتحدّث عن مبادئ أهل البيت و التمسّك بهم ، ممّا يتطلب الموقف تقديم مثل هذه الصورة التضمينيّة ـ الاستدلاليّة الّتي تبلور مفهوم التمسُّك بأهل البيت (عليهم السلام) . . . كذلك عندما يلجأ الإمام (عليه السلام) إلى الصورة ( التضمينيّة ـ الفرضيّة ) من نحو ( لو فهمت الصمّ الصلاب . . . لتصدّعت ) إنّما يستهدف إبراز أهم مبادئ السلوك العبادي الّتي خلق اللّه الإنسان من أجل ممارستها ، ألا و هو معرفة هذه المبادئ و العمل بموجبها ، حيث إنّ الصمّ الصلاب و هي غير مكلّفة بتحمُّل مسؤوليّة الخلافة تتصدّع فعلا لو أنيط بها حمل هذه المسؤوليّة ، فكيف بالإنسان؟ . إذن : يجيء استخدام الصورة عند الإمام (عليه السلام) ، توظيفاً فرضته ضرورة فكريّة كما لحظنا ، ممّا يفسّر لنا ـ كما كرّرنا دائماً ـ طبيعة النصوص الّتي يتوفَّر عليها أهل البيت (عليهم السلام) و تميّزها عن سائر النصوص العاديّة حيث لا يعنون بالفن من أجل كونه فنّاً بل من أجل توظيفه فكرياً ، . . . لذلك نجد النصوص لديهم مترسّلة حيناً و موشّحة بالفن حيناً آخر ، و مكثّفة إلى درجة ملحوظة بالفن حيناً ثالثاً . . . و هذا الاستخدام النسبي لعناصر الفنّ ـ فيما لحظناه ـ في أدب الرسائل لدى الإمام (عليه السلام) يمكن ملاحظته في سائر الأشكال الأدبيّة ، و منها : أدب الخواطر الخاطرة الآتية ـ و هي تتحدّث عن الشرائح الاجتماعيّة من حيث موقفها من إمامته (عليه السلام) ـ تكشف لنا عن جانب آخر من ( نسبيّة ) عناصر الفنّ الّتي تفرضها سياقات فكريّة خاصة . يقول (عليه السلام) : « إنّما خاطب اللّه عزّ و جلّ العاقل . . . ، الناس في طبقات شتّى ، و المستبصر على سبيل نجاة ، متمسّك بالحقّ ، متعلّق بفرع أصيل ، غير شاكّ و لا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأ ، و طبقة لم تأخذ الحقّ من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه و يسكن عند سكونه ، و طبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الردّ على أهل الحقّ و دفع الحقّ بالباطل : حسداً من عند أنفسهم ، فدع مَن ذهب يميناً و شمالا فالرّاعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي . . . و إيّاك و الإذاعة و طلب الرئاسة »([2]) . . . فالملاحَظ في هذه الخاطرة إنّها ( مكثّفة ) بأدوات الفنّ بحيث لا تكاد فقرة منها تخلو من عنصر صوري ملحوظ ، . . . فالطبقة الأولى صاغها النصّ في صور ( استعاريّة ) و ( تمثيليّة ) من نحو : ( المستبصر على سبيل نجاة ) ( متمسّك بالحق ) ( متعلّق بفرع أصيل ) ( لا يجد عنه ملجأ ) . و الطبقة الثانية : صاغها في صورة ( تشبيهيّة ) ذات طابع استمراري ، أي : صورة ذات تفريع ( فهم كراكب البحر ، يموج . . . الخ ) ، و الطبقة الثالثة : صاغها مترسّلة ، إلاّ أنّه وشّحها بعنصر لفظي تعويضاً عن الصورة . . . ثمّ شحن المقطع الأخير من هذه الخاطرة بعنصر صوري مدهش هو : الرمز و الاستدلال ( فدع من ذهب يميناً و شمالا ) ـ رمز ، ( فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي ) ـ استدلال ، . . . إنّ القارئ ينبهر مندهشاً دون أدنى شك حينما يلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام)يقدّم في هذه الخاطرة نصّاً فنّياً مشحوناً بعناصر فنّيّة مكثّفة التكثيف ، في حين يقدّم (عليه السلام) في نصّ أسبق ( الرسالة ) نصّاً يتأرجح بين الترسّل و الصياغة الفنّيّة ، ثمّ يقدّم في نصّ ثالث : لغة مترسّلة خالية من أيّة أداة صوريّة أو إيقاعيّة : كل ذلك حسب ما يستدعيه السياق ـ كما كرّرنا ، . . . و مادمنا قد أثبتنا هذه الخاطرة الفنّيّة ، حينئذ يجدر بنا أن نقف على بعض عناصرها الصوريّة و ملاحظة سياقاتها الفكريّة الّتي استدعت مثل هذا التوفّر على الفنّ الجميل . . . لنلاحظ مثلا ختام المقطع الّذي توجَّه به إلى مخاطبة : « فدع من ذهب يميناً و شمالا ، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه : جمعها في أهون السعي ، و إيّاك و الإذاعة و طلب الرئاسة » . . . إنّ هذا المقطع يتضمّن ـ كما قلنا ـ صورة ( رمزيّة ) هي : ( فدع من ذهب يميناً و شمالا ) حين يرمز باليمين و الشمال إلى الطبقة المتأرجحة الّتي شبّهها سابقاً براكب البحر : يموج عند موجه ، و يسكن عند سكونه . . . و أهميّة هذا الرمز تتمثّل في كونه يجسّد وحدة عضويّة تربط بين الصورة التشبيهيّة ( كراكب البحر ) و بين الصورة الرمزيّة ( يميناً و شمالا ) . . . و من الواضح ، أنّ من أهمّ و أبرز نجاح النصّ الفني هو : خضوعه لبناء هندسي محكم تتلاحم و تتنامى جزئياته بعضاً مع الآخر على العكس من النص الّذي تتردّى كلّ صورة فيه في واد ، بحيث تنفصل صور التشبيه عن الاستعارة ، و الرمز عن الإستدلال ، و تصبح كلّ صورة مستقلة عن الأخرى ، في حين نجد أنّ النصّ المتقدمّ جسّد صورة موحّدة عضويّة تترابط فيما بينها ، فصورة الرمز ( اليمين و الشمال ) ارتبطت بسابقتها ( كراكب البحر يموج عند موجه ، و يسكن عند سكونه ) ، . . . كذلك نجد الصورة الاستدلاليّة ( فإنّ الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه . . . ) مرتبطة بسابقتها حيث جاءت في سياق اختلاف الطوائف الاجتماعيّة فيما بينها من جانب و اختلاف الطائفة المحقّة أيضاً من جانب آخر ، حيث أشار (عليه السلام) إلى إمكانيّة أن يجمع الراعي غنمه متى شاء في غمرة مطالبته (عليه السلام)بأن يترك ( صاحبه ) من ذهب يميناً و شمالا ، و يتّجه إلى الطبقة المستبصرة ، المتمسّكة بالحقّ ، المتعلقة بفرع الأصل . . . و هكذا يكون النصّ قد ربط عضوياً بين الصور الفنّيّة الّتي وصلت أيضاً بين موضوعات النصّ الثلاثة : أي ، الطبقات الّتي صنّفها الإمام (عليه السلام) : المحقّة ، و الباطلة ، و المتأرجحة . . . لكن خارجاً عن البناء الفني للنصّ نجد أنّ الكثافة الصوريّة فيه قد فرضها سياق خاص هو : هذا التفاوت بين الطبقات الثلاث ، حيث يتطلّب توضيحها عنصراً صورياً مكثّفاً يتناسب و كثافة التفاوت بين هذه المستويات الفكريّة لدى الناس ، فالمستبصر مثلا ـ و هو ما ينبغي أن يتّجه إلى الإمام (عليه السلام) ـ لابدّ أن يرتبط فكرياً بمبادئ النبوّة ثمّ العترة غير المنفصلة عنها ، و حينئذ ، فإنّ هذا الارتباط بين النبوّة و العترة و امتداداتها يتطلّب عنصراً رمزياً مثل قوله (عليه السلام)عن هذه الطبقة ( متعلّق بفرع أصيل ) لأنّ الأصل و الفرع ( رمزان ) للارتباط الفكري المذكور ، . . . كما يتطلّب عنصراً استعارياً مثل ( متمسّك بالحقّ ) أو عنصراً تمثيلياً مثل ( لا يجد عنه ملجأ ) ، نظراً لكون هذا الارتباط هو توجّه نحو الحقّ ، و لكون الإمام (عليه السلام) تجسيداً لذلك الحقّ ، فلزم أن تكون الصورة ( تمثيليّة ) تجسّم ( الملجأ ) الّذي يتّجه إليه الإسلاميون . . . و الأمر نفسه بالنسبة إلى الطبقة المتأرجحة ، فبما أنّ هذه الطبقة لم تأخذ الحقّ من مصادره الأصيلة ، حينئذ تظل في تيه و حيرة نظراً لعدم انتهائها إلى شاطئ محدّد ، و حينئذ لزم أن يشبّه موقفها براكب البحر الّذي يموج بموجه و يسكن بسكونه . . . إذن : جاءت الصور الفنّيّة المشار إليها ، محكومة بسياقات فرضتها طبيعة الأفكار الّتي طرحها الإمام (عليه السلام) في الخاطرة المشار إليها . . . و هو أمر يمكن ملاحظته في نمط آخر من النصوص الّتي قدّمها الإمام (عليه السلام) ، و نعني بها : الحديث الفنّي إذا دقّقنا النظر في الأحاديث الّتي طرحها الإمام العسكري (عليه السلام) ، لحظنا أنّها امتداد للأئمّة السابقين في كونها تمثّل غالبيّة النتاج المأثور عنه (عليه السلام) للأسباب الّتي كرّرنا الإشارة إليها . . . و المهمّ ، أنّ الإمام (عليه السلام) ( و قد لحظنا مدى توفّره على صياغة الصور في رسائله ) قد توفّر على صياغة العنصر الصوري بنحو ملحوظ في كثير من نماذج الأحاديث الّتي صدرت عنه (عليه السلام) . . . و إليك طائفة منها : « بسم اللّه الرحمن الرحيم : أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من سواد العين إلى بياضها »([3]) . « من يزرع خيراً : يحصد غبطة ، و من يزرع شراً يحصد ندامة »([4]) . « الإشراك في الناس : أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة »([5]) . « مَن تعدّى في طهوره : كان كناقضه »([6]) . « حبّ الأبرار للأبرار ثواب للأبرار ، و حبّ الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار ، و بغض الفجّار للأبرار زين للأبرار ، و بغض الأبرار للفجّار خزي على الفجّار »([7]) . « الغضب : مفتاح كلّ شرّ »([8]) . « بئس العبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين : يطري أخاه شاهداً و يأكله غائباً »([9]) . هذه الا حاديث و سواها ، تحفل بصورة فنّيّة مثيرة و طريفة كما هو واضح . . . كما أنّها متنوّعة تتوزّع بين التشبيهات و الاستعارات و التمثيلات و سواها من الصور الّتي لحظنا نماذج منها في رسائل الإمام (عليه السلام) . . . إنّ ملاحظتنا للصور التشبيهيّة ـ على سبيل المثال ـ ، تكشف عن مدى اكتناز هذه النصوص بجماليّة فائقة من حيث السياق الّذي وردت التشبيهات من خلاله ، فهناك أوّلا : التنوّع في هذه التشبيهات من حيث أشكالها مثل ( تشبيه التفاوت ) متمثِّلا في قوله (عليه السلام) : « أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة » . . . فالملاحَظ في هذا التشبيه أنّه يقارن بين ( إشراك الناس ) و بين دبيب النمل ( في لباس أسود ) ( في ليلة مظلمة ) ، فاللباس الأسود وحده كاف في جعل الإشراك معتماً من حيث لون النملة و لون اللباس ، فإذا أضفنا إلى ذلك الليلة المظلمة ، نكون حينئذ أمام ثلاثة ألوان من الخفاء : النملة ، اللباس ، الليل ، . . . فإذا أضفنا أيضاً عبارة التفاوت ( أخفى ) ـ أي أشد خفاء من هذه الألوان ـ حينئذ نظفر بصورة فنّيّة مدهشة تتركّب من أربع طبقات تصب جميعاً في إبراز مفهوم ( الإشراك الخفي ) بحيث تتناسب هذه الكثافة الصوريّة مع كثافة الإشراك الّذي يدبّ بخفاء بالغ المدى . . . و حتّى لو كان ( التشبيه ) غير مركّب من أطراف متنوّعة ( التشبيه السابق الّذي تركّب من أربع ظواهر ) ، نجد أنّ التشبيه الآخر و هو قوله : « بسم اللّه الرحمن الرحيم : أقرب من سواد العين إلى بياضها » حيث تركّب من ظاهرتين فحسب ، . . . نجد أنّ هذه المسافة التقريبيّة الّتي يستهدف ( التشبيه ) توضيحها ، أي : توضيح أنّ ( بسم اللّه . . . ) بالنسبة إلى ( الاسم الأعظم ) أقرب من سواد العين إلى بياضها ، . . . نجدها مشحونة بنفس الكثافة الّتي لحظناها في التشبيه السابق ، فسواد العين و بياضها متجاوران ـ كما هو واضح ـ و حينئذ لا يمكن البتة صياغة أي تشبيه أشدّ لصوقاً بالواقع من هذه الصورة الّتي تردم الحدود بين السواد و البياض . . . و حتّى لو كان التشبيه غير مركّب كما هو طابع التشبيه الثالث من هذه النصوص و هو قوله (عليه السلام) : « من تعدّى في طهوره : كان كناقضه » حيث إنّ التشبيه لا يتجاوز تركيبته الظاهرة الواحدة و هي : « نقض الوضوء » ، لكن حتّى هذا التشبيه لمفرده نجده مكثّفاً بدلالات مماثلة للتشبيهين السابقين ، . . . فالّذي يتعدّى في طهوره ما هو المرسوم له في الأحكام ، يكون بذلك كمن نقض وضوءَه ، أي : كمن لا يتوضّأ ، و حينئذ فهل هناك تشبيه أشد لصوقاً بواقع هذه الممارسة المحظورة ( التعدي في الوضوء ) من هذا التشبيه الّذي يقارن بين من يتوضّأ و بين نقض الوضوء حيث لا وضوء في النهاية ، أي : كونه تشبيهاً يجمع بين أدنى الشي و أقصاه ، و هو أدق ما يمكن صياغتها في هذا الميدان . . . ولو تابعنا الصور الأُخرى للحظنا نفس الطابع فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها . . . و هو أمر يكشف ـ كما كرّرنا ـ عن أنّ العنصر الصوري و سواه في نتاج أهل البيت (عليهم السلام) يتمثّل في كونه يرِدُ في سياقات خاصة أوّلا ، و كونه يستقي ما هو المألوف من الخبرات اليوميّة ثانياً ( حركة النمل ، بياض العين و سوادها ، الوضوء و نقضه ) ، و كونه مكثّفاً عميقاً مركّزاً ثالثاً ، وكونه متناسباً مع الدلالات الّتي يستهدف توصيلها إلينا رابعاً ، . . . و هذه جميعاً تمثّل مهمّة الفنّ في أنجح مستوياته ، بالنحو الّذي أوضحناه ، . . . -------------------------------------------------------------------------------- [1] ـ تحف العقول: ص 513 ، 515 . [2] ـ البحار: ج 50 ، ص 296 . [3] ـ تحف العقول: ص 517 . [4] ـ نفس المصدر: ص 517 . [5] ـ نفس المصدر: ص 516 . [6] ـ نفس المصدر: ص 517 . [7] ـ نفس المصدر: ص 525 . [8] ـ نفس المصدر: ص 519 . [9] ـ نفس المصدر: ص518 .
|
![]() |
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
![]() |
![]() |