العودة   منتدى جامع الائمة الثقافي > القسم الإسلامي العام > منبر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

منبر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المواضيع التي تخص ائمة الهدى (سيرتهم وهديهم)

إنشاء موضوع جديد  إضافة رد
 
Bookmark and Share أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-01-2025, 08:35 AM   #1

 
الصورة الرمزية مؤمنة

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 2378
تـاريخ التسجيـل : Aug 2013
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : العراق
االمشاركات : 1,173

افتراضي أدب الامام العسكرى (عليه السلام)


أدب الامام العسكرى (عليه السلام)



يحتلّ الإمام العسكري (عليه السلام) موقعاً ريادياً في المجتمعات الإسلاميّة ، بالرغم من محاولات السلاطين المتنوّعة في إبعاد الجمهور عنه و صرف الإمامة الحقيقيّة عن شخصيّته ، حيث لم يحتجز الإرهاب و التعتيم الإعلامي عن تسليم الجمهور بإمامته و ريادته إسلامياً ، حتّى أنّ المؤرّخين يذكرون كيف أنّ السلاطين و ولاتهم قد اضطرّوا إلى تكريم الإمام العسكري (عليه السلام) و تقديمه على أيّة شخصيّة سياسيّة ، و تسليمهم بإمامته الحقيقيّة ، و بكونه نموذجاً للفضل و العفاف و الزهد و الهدى و النُبل و الكرم و سائر سمات الشخصيّة المتفردة ، . . . و هو أمر يكشف ـ دون أدنى شكّ ـ عن أنّ هيمنة الإمام (عليه السلام)ترتبط بقناة غيبيّة تفرض فاعليّتها على الجمهور ـ بما فيهم الأعداء ـ لتكون بذلك حجة في حقل تحمّل المسؤوليّة الّتي خلعها اللّه تعالى على الآدميين من خلال مفهوم خلافة البشر في الأرض . . . و المهم ، أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) يظل ـ مثل سائر المعصومين (عليهم السلام) ـ نموذجاً للشخصيّة العباديّة الّتي تمارس مهمة الإمامة في مختلف الصُعد ، و منها الصعيد الأدبي الّذي يُستثمَر لتوصيل مبادئ اللّه تعالى إلى الآخرين . . . و بالرغم من أنّ إمامة العسكري (عليه السلام) لم تمتد أكثر من ست سنوات ، . . . و بالرغم أيضاً من أنّ الفترة الزمنيّة للأئمة الأربعة ( الجواد ، الهادي ، العسكري ، المهدي (عليهم السلام) ) ـ كما ذكرنا سابقاً ـ لم تسمح لأسباب غيبيّة و اجتماعيّة بتقديم النصوص الفكريّة بنفس الحجم الّذي سُمِح من خلاله للأئمّة السابقين ( عليّ ، الحسنين ، السجاد ، الصادقين ، الكاظم ، الرضا (عليهم السلام) ) . . . بالرغم من ذلك كلّه ، يمكننا أن نظفر بنصوص أدبيّة للإمام العسكري (عليه السلام) : تعدّ امتداداً لنصوص مماثلة لسائر المعصومين في ميدان الرسالة أو المقابلة أو الحديث الفني . . . و إليك نموذجاً منها :

أدب الرسائل

الرسالة ـ كما كرّرنا ـ نصّ أدبي يوجّه إلى شخصيّة أو جماعة ، تتضمّن خواطر و أفكاراً عباديّة في مختلف القضايا . . . و يُلاحَظ أنّ الشخصيّة الّتي تُوجّه الرسالة إليها ، أو يُوجّه الحديثُ إليها في مقابلات خاصة ، كما لحظنا ذلك في توجيه الكلام إلى جملة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ، كالإمام الباقر و الصادق و الكاظم (عليهم السلام)تظل بمثابة ( البطل في القصّة ) ، لكن في صعيد المخاطبة فحسب ، حيث شكّل ذلك أُسلوباً يتكرّر من خلاله اسم الشخصيّة المخاطَبة كما هو طابع الرسائل بعامة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ تكرّر الإسم و المخاطبة ينطوي على سرّ فنّي هو : شدّ الانتباه من جانب ، و طرد الملل من جانب آخر . . . و المهم ـ من ثَمّ ـ أنّ لغة الرسالة تُوشَّح بأدوات فنّيّة : لفظياً و إيقاعياً و صورياً ، و هو أمر يمكن ملاحظته في الرسالة الّتي وجّهها الإمام العسكري (عليه السلام)إلى أحد أصحابه و هو ( إسحاق النيسابوري ) جواباً لرسالة بعثها هذا الأخير إلى الإمام (عليه السلام) . . . جاء في هذه الرسالة :

« . . . نحن بحمد اللّه و نعمته : أهل بيت نرقّ على أوليائنا ، و نسرّ بتتابع إحسان اللّه إليهم ، و فضله لديهم ، و نعتدّ بكل نعمة ينعمها اللّه تبارك و تعالى عليهم ، فأتم اللّه عليك ـ يا إسحاق و على من كان مثلك ، ممّن قد رحمه اللّه و بصّره بصيرتك ـ نعمته . . . و أنا أقول الحمد للّه أفضل ما حمده حامد إلى أبد الأبد بما منّ اللّه عليك من رحمته ، و نجاك من الهلكة و سهّل سبيلك على العقبة و أيُم اللّه إنّها لعقبة كؤود شديد أمرها ، صعب مسلكها ، عظيم بلاؤها ، قديم في الزبر الأولى ذكرها . . . فاعلم يقيناً ـ يا إسحاق ـ إنّه من خرج من هذه الدنيا أعمى ، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا . يا إسحاق : ليس تعمى الأبصار ، و لكن تعمى القلوب الّتي في الصدور . . . فأين يُتاه بكم ، و أين تذهبون كالأنعام على وجوهكم ، عن الحقّ تصدفون و بالباطل تؤمنون ، و بنعمة اللّه تكفرون . . . لولا محمد (صلى الله عليه وآله)و الأوصياء من ولده لكنتم حيارى كالبهائم ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها . . . رحم اللّه ضعفكم و غفلتكم ، و صبركم على أمركم ، فما أغرّ الإنسان بربّه الكريم ـ ولو فهمت الصمّ الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدّعت قلقاً و خوفاً من خشية اللّه و رجوعاً إلى طاعة اللّه . . . الخ »([1]) .

إنّ هذه الرسالة ـ بالرغم من لغتها المترسّلة ـ تحفل بعناصر فنّيّة متنوعة : إيقاعياً و صورياً و لفظياً .

أمّا إيقاعياً فيمكن ملاحظة الجمل المقفّاة من نحو ( إليهم ، لديهم ، عليهم ) و من نحو ( لو فهمت الصمّ الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب ) . . .

و أمّا لفظياً ، فإنّ ( التساؤل ) و ( الحوار ) و ( التكرار ) تظل عناصر ملحوظة في هذه الرسالة ( فأين يتاه بكم؟ ) ( و أين تذهبون؟ ) ( فما أغرّ الإنسان؟ ) . . .الخ .

و أمّا صورياً ، فإنّ الرسالة تحفل بعنصر صوري متنوع ، حيث نلحظ ( الصورة التضمينيّة ) بنحو لافت للنظر بخاصة تضمين القرآن من نحو ( سهّل سبيلك على العقبة ) ( من خرج من هذه الدنيا أعمى ) ( لتصدّعت قلقاً و خوفاً ) . . . كذلك تضمين الحديث النبوي ( و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها ) ، كذلك تضمين الحديث العلوي ( لو فهمت الصمّ الصلاب . . . ) . . . كما نلحظ خلال هذه التضمينات و سواها تنوّعاً في الصورة من تشبيه ، و استعارة ، و رمزاً ، و استدلال ، و فرضيّة من نحو : ( و أين تذهبون كالأنعام ) ـ تشبيه ، و من نحو : ( إنّها لعقبة كؤود ) ـ تمثيل ، و من نحو : ( صعب مسكلها ) ـ استعارة ، و من نحو : ( و هل تدخل مدينة . . . ) ـ استدلال ، و من نحو : ( لو فهمت الصمّ الصلاب ) ـ فرضيّة ، . . .

إذن : لحظنا صوراً فرضيّة و استدلاليّة و تمثيليّة و استعاريّة و تشبيهيّة ، . . . و هذا التنوّع في الصياغة الصوريّة يكسب الرسالة مزيداً من الجمال الفنّي كما هو واضح . . . و الأهم من ذلك أنّ هذه الصور صيغت تلقائيّة قد فرضها السياق الفكري و ليس مجرد تنميق ، كما هو طابع الرسائل الّتي يكتبها العاديون من البشر . . . فعندما يصوغ النصّ صورة ( تضمينيّة ـ استدلاليّة ) من نحو ( و هل تدخل مدينة إلاّ من بابها ) إنّما يستهدف من ذلك توضيح حقيقة تشكل جوهر الرسالة الّتي تتحدّث عن مبادئ أهل البيت و التمسّك بهم ، ممّا يتطلب الموقف تقديم مثل هذه الصورة التضمينيّة ـ الاستدلاليّة الّتي تبلور مفهوم التمسُّك بأهل البيت (عليهم السلام) . . . كذلك عندما يلجأ الإمام (عليه السلام) إلى الصورة ( التضمينيّة ـ الفرضيّة ) من نحو ( لو فهمت الصمّ الصلاب . . . لتصدّعت ) إنّما يستهدف إبراز أهم مبادئ السلوك العبادي الّتي خلق اللّه الإنسان من أجل ممارستها ، ألا و هو معرفة هذه المبادئ و العمل بموجبها ، حيث إنّ الصمّ الصلاب و هي غير مكلّفة بتحمُّل مسؤوليّة الخلافة تتصدّع فعلا لو أنيط بها حمل هذه المسؤوليّة ، فكيف بالإنسان؟ .

إذن : يجيء استخدام الصورة عند الإمام (عليه السلام) ، توظيفاً فرضته ضرورة فكريّة كما لحظنا ، ممّا يفسّر لنا ـ كما كرّرنا دائماً ـ طبيعة النصوص الّتي يتوفَّر عليها أهل البيت (عليهم السلام) و تميّزها عن سائر النصوص العاديّة حيث لا يعنون بالفن من أجل كونه فنّاً بل من أجل توظيفه فكرياً ، . . . لذلك نجد النصوص لديهم مترسّلة حيناً و موشّحة بالفن حيناً آخر ، و مكثّفة إلى درجة ملحوظة بالفن حيناً ثالثاً . . .

و هذا الاستخدام النسبي لعناصر الفنّ ـ فيما لحظناه ـ في أدب الرسائل لدى الإمام (عليه السلام) يمكن ملاحظته في سائر الأشكال الأدبيّة ، و منها :

أدب الخواطر

الخاطرة الآتية ـ و هي تتحدّث عن الشرائح الاجتماعيّة من حيث موقفها من إمامته (عليه السلام) ـ تكشف لنا عن جانب آخر من ( نسبيّة ) عناصر الفنّ الّتي تفرضها سياقات فكريّة خاصة .

يقول (عليه السلام) : « إنّما خاطب اللّه عزّ و جلّ العاقل . . . ، الناس في طبقات شتّى ، و المستبصر على سبيل نجاة ، متمسّك بالحقّ ، متعلّق بفرع أصيل ، غير شاكّ و لا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأ ، و طبقة لم تأخذ الحقّ من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه و يسكن عند سكونه ، و طبقة استحوذ عليهم الشيطان ، شأنهم الردّ على أهل الحقّ و دفع الحقّ بالباطل : حسداً من عند أنفسهم ، فدع مَن ذهب يميناً و شمالا فالرّاعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي . . . و إيّاك و الإذاعة و طلب الرئاسة »([2]) . . .

فالملاحَظ في هذه الخاطرة إنّها ( مكثّفة ) بأدوات الفنّ بحيث لا تكاد فقرة منها تخلو من عنصر صوري ملحوظ ، . . . فالطبقة الأولى صاغها النصّ في صور ( استعاريّة ) و ( تمثيليّة ) من نحو : ( المستبصر على سبيل نجاة ) ( متمسّك بالحق ) ( متعلّق بفرع أصيل ) ( لا يجد عنه ملجأ ) .

و الطبقة الثانية : صاغها في صورة ( تشبيهيّة ) ذات طابع استمراري ، أي : صورة ذات تفريع ( فهم كراكب البحر ، يموج . . . الخ ) ، و الطبقة الثالثة : صاغها مترسّلة ، إلاّ أنّه وشّحها بعنصر لفظي تعويضاً عن الصورة . . . ثمّ شحن المقطع الأخير من هذه الخاطرة بعنصر صوري مدهش هو : الرمز و الاستدلال ( فدع من ذهب يميناً و شمالا ) ـ رمز ، ( فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي ) ـ استدلال ، . . . إنّ القارئ ينبهر مندهشاً دون أدنى شك حينما يلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام)يقدّم في هذه الخاطرة نصّاً فنّياً مشحوناً بعناصر فنّيّة مكثّفة التكثيف ، في حين يقدّم (عليه السلام) في نصّ أسبق ( الرسالة ) نصّاً يتأرجح بين الترسّل و الصياغة الفنّيّة ، ثمّ يقدّم في نصّ ثالث : لغة مترسّلة خالية من أيّة أداة صوريّة أو إيقاعيّة : كل ذلك حسب ما يستدعيه السياق ـ كما كرّرنا ، . . . و مادمنا قد أثبتنا هذه الخاطرة الفنّيّة ، حينئذ يجدر بنا أن نقف على بعض عناصرها الصوريّة و ملاحظة سياقاتها الفكريّة الّتي استدعت مثل هذا التوفّر على الفنّ الجميل . . . لنلاحظ مثلا ختام المقطع الّذي توجَّه به إلى مخاطبة : « فدع من ذهب يميناً و شمالا ، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه : جمعها في أهون السعي ، و إيّاك و الإذاعة و طلب الرئاسة » . . . إنّ هذا المقطع يتضمّن ـ كما قلنا ـ صورة ( رمزيّة ) هي : ( فدع من ذهب يميناً و شمالا ) حين يرمز باليمين و الشمال إلى الطبقة المتأرجحة الّتي شبّهها سابقاً براكب البحر : يموج عند موجه ، و يسكن عند سكونه . . . و أهميّة هذا الرمز تتمثّل في كونه يجسّد وحدة عضويّة تربط بين الصورة التشبيهيّة ( كراكب البحر ) و بين الصورة الرمزيّة ( يميناً و شمالا ) . . .

و من الواضح ، أنّ من أهمّ و أبرز نجاح النصّ الفني هو : خضوعه لبناء هندسي محكم تتلاحم و تتنامى جزئياته بعضاً مع الآخر على العكس من النص الّذي تتردّى كلّ صورة فيه في واد ، بحيث تنفصل صور التشبيه عن الاستعارة ، و الرمز عن الإستدلال ، و تصبح كلّ صورة مستقلة عن الأخرى ، في حين نجد أنّ النصّ المتقدمّ جسّد صورة موحّدة عضويّة تترابط فيما بينها ، فصورة الرمز ( اليمين و الشمال ) ارتبطت بسابقتها ( كراكب البحر يموج عند موجه ، و يسكن عند سكونه ) ، . . . كذلك نجد الصورة الاستدلاليّة ( فإنّ الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه . . . ) مرتبطة بسابقتها حيث جاءت في سياق اختلاف الطوائف الاجتماعيّة فيما بينها من جانب و اختلاف الطائفة المحقّة أيضاً من جانب آخر ، حيث أشار (عليه السلام) إلى إمكانيّة أن يجمع الراعي غنمه متى شاء في غمرة مطالبته (عليه السلام)بأن يترك ( صاحبه ) من ذهب يميناً و شمالا ، و يتّجه إلى الطبقة المستبصرة ، المتمسّكة بالحقّ ، المتعلقة بفرع الأصل . . .

و هكذا يكون النصّ قد ربط عضوياً بين الصور الفنّيّة الّتي وصلت أيضاً بين موضوعات النصّ الثلاثة : أي ، الطبقات الّتي صنّفها الإمام (عليه السلام) : المحقّة ، و الباطلة ، و المتأرجحة . . . لكن خارجاً عن البناء الفني للنصّ نجد أنّ الكثافة الصوريّة فيه قد فرضها سياق خاص هو : هذا التفاوت بين الطبقات الثلاث ، حيث يتطلّب توضيحها عنصراً صورياً مكثّفاً يتناسب و كثافة التفاوت بين هذه المستويات الفكريّة لدى الناس ، فالمستبصر مثلا ـ و هو ما ينبغي أن يتّجه إلى الإمام (عليه السلام) ـ لابدّ أن يرتبط فكرياً بمبادئ النبوّة ثمّ العترة غير المنفصلة عنها ، و حينئذ ، فإنّ هذا الارتباط بين النبوّة و العترة و امتداداتها يتطلّب عنصراً رمزياً مثل قوله (عليه السلام)عن هذه الطبقة ( متعلّق بفرع أصيل ) لأنّ الأصل و الفرع ( رمزان ) للارتباط الفكري المذكور ، . . . كما يتطلّب عنصراً استعارياً مثل ( متمسّك بالحقّ ) أو عنصراً تمثيلياً مثل ( لا يجد عنه ملجأ ) ، نظراً لكون هذا الارتباط هو توجّه نحو الحقّ ، و لكون الإمام (عليه السلام) تجسيداً لذلك الحقّ ، فلزم أن تكون الصورة ( تمثيليّة ) تجسّم ( الملجأ ) الّذي يتّجه إليه الإسلاميون . . .

و الأمر نفسه بالنسبة إلى الطبقة المتأرجحة ، فبما أنّ هذه الطبقة لم تأخذ الحقّ من مصادره الأصيلة ، حينئذ تظل في تيه و حيرة نظراً لعدم انتهائها إلى شاطئ محدّد ، و حينئذ لزم أن يشبّه موقفها براكب البحر الّذي يموج بموجه و يسكن بسكونه . . .

إذن : جاءت الصور الفنّيّة المشار إليها ، محكومة بسياقات فرضتها طبيعة الأفكار الّتي طرحها الإمام (عليه السلام) في الخاطرة المشار إليها . . . و هو أمر يمكن ملاحظته في نمط آخر من النصوص الّتي قدّمها الإمام (عليه السلام) ، و نعني بها :

الحديث الفنّي

إذا دقّقنا النظر في الأحاديث الّتي طرحها الإمام العسكري (عليه السلام) ، لحظنا أنّها امتداد للأئمّة السابقين في كونها تمثّل غالبيّة النتاج المأثور عنه (عليه السلام) للأسباب الّتي كرّرنا الإشارة إليها . . . و المهمّ ، أنّ الإمام (عليه السلام) ( و قد لحظنا مدى توفّره على صياغة الصور في رسائله ) قد توفّر على صياغة العنصر الصوري بنحو ملحوظ في كثير من نماذج الأحاديث الّتي صدرت عنه (عليه السلام) . . . و إليك طائفة منها :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم : أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من سواد العين إلى بياضها »([3]) .

« من يزرع خيراً : يحصد غبطة ، و من يزرع شراً يحصد ندامة »([4]) .

« الإشراك في الناس : أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة »([5]) .

« مَن تعدّى في طهوره : كان كناقضه »([6]) .

« حبّ الأبرار للأبرار ثواب للأبرار ، و حبّ الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار ، و بغض الفجّار للأبرار زين للأبرار ، و بغض الأبرار للفجّار خزي على الفجّار »([7]) .

« الغضب : مفتاح كلّ شرّ »([8]) .

« بئس العبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين : يطري أخاه شاهداً و يأكله غائباً »([9]) .

هذه الا حاديث و سواها ، تحفل بصورة فنّيّة مثيرة و طريفة كما هو واضح . . . كما أنّها متنوّعة تتوزّع بين التشبيهات و الاستعارات و التمثيلات و سواها من الصور الّتي لحظنا نماذج منها في رسائل الإمام (عليه السلام) . . .

إنّ ملاحظتنا للصور التشبيهيّة ـ على سبيل المثال ـ ، تكشف عن مدى اكتناز هذه النصوص بجماليّة فائقة من حيث السياق الّذي وردت التشبيهات من خلاله ، فهناك أوّلا : التنوّع في هذه التشبيهات من حيث أشكالها مثل ( تشبيه التفاوت ) متمثِّلا في قوله (عليه السلام) : « أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة » . . . فالملاحَظ في هذا التشبيه أنّه يقارن بين ( إشراك الناس ) و بين دبيب النمل ( في لباس أسود ) ( في ليلة مظلمة ) ، فاللباس الأسود وحده كاف في جعل الإشراك معتماً من حيث لون النملة و لون اللباس ، فإذا أضفنا إلى ذلك الليلة المظلمة ، نكون حينئذ أمام ثلاثة ألوان من الخفاء : النملة ، اللباس ، الليل ، . . . فإذا أضفنا أيضاً عبارة التفاوت ( أخفى ) ـ أي أشد خفاء من هذه الألوان ـ حينئذ نظفر بصورة فنّيّة مدهشة تتركّب من أربع طبقات تصب جميعاً في إبراز مفهوم ( الإشراك الخفي ) بحيث تتناسب هذه الكثافة الصوريّة مع كثافة الإشراك الّذي يدبّ بخفاء بالغ المدى . . . و حتّى لو كان ( التشبيه ) غير مركّب من أطراف متنوّعة ( التشبيه السابق الّذي تركّب من أربع ظواهر ) ، نجد أنّ التشبيه الآخر و هو قوله : « بسم اللّه الرحمن الرحيم : أقرب من سواد العين إلى بياضها » حيث تركّب من ظاهرتين فحسب ، . . . نجد أنّ هذه المسافة التقريبيّة الّتي يستهدف ( التشبيه ) توضيحها ، أي : توضيح أنّ ( بسم اللّه . . . ) بالنسبة إلى ( الاسم الأعظم ) أقرب من سواد العين إلى بياضها ، . . . نجدها مشحونة بنفس الكثافة الّتي لحظناها في التشبيه السابق ، فسواد العين و بياضها متجاوران ـ كما هو واضح ـ و حينئذ لا يمكن البتة صياغة أي تشبيه أشدّ لصوقاً بالواقع من هذه الصورة الّتي تردم الحدود بين السواد و البياض . . . و حتّى لو كان التشبيه غير مركّب كما هو طابع التشبيه الثالث من هذه النصوص و هو قوله (عليه السلام) : « من تعدّى في طهوره : كان كناقضه » حيث إنّ التشبيه لا يتجاوز تركيبته الظاهرة الواحدة و هي : « نقض الوضوء » ، لكن حتّى هذا التشبيه لمفرده نجده مكثّفاً بدلالات مماثلة للتشبيهين السابقين ، . . . فالّذي يتعدّى في طهوره ما هو المرسوم له في الأحكام ، يكون بذلك كمن نقض وضوءَه ، أي : كمن لا يتوضّأ ، و حينئذ فهل هناك تشبيه أشد لصوقاً بواقع هذه الممارسة المحظورة ( التعدي في الوضوء ) من هذا التشبيه الّذي يقارن بين من يتوضّأ و بين نقض الوضوء حيث لا وضوء في النهاية ، أي : كونه تشبيهاً يجمع بين أدنى الشي و أقصاه ، و هو أدق ما يمكن صياغتها في هذا الميدان . . .

ولو تابعنا الصور الأُخرى للحظنا نفس الطابع فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها . . . و هو أمر يكشف ـ كما كرّرنا ـ عن أنّ العنصر الصوري و سواه في نتاج أهل البيت (عليهم السلام) يتمثّل في كونه يرِدُ في سياقات خاصة أوّلا ، و كونه يستقي ما هو المألوف من الخبرات اليوميّة ثانياً ( حركة النمل ، بياض العين و سوادها ، الوضوء و نقضه ) ، و كونه مكثّفاً عميقاً مركّزاً ثالثاً ، وكونه متناسباً مع الدلالات الّتي يستهدف توصيلها إلينا رابعاً ، . . . و هذه جميعاً تمثّل مهمّة الفنّ في أنجح مستوياته ، بالنحو الّذي أوضحناه ، . . .





--------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ تحف العقول: ص 513 ، 515 .

[2] ـ البحار: ج 50 ، ص 296 .

[3] ـ تحف العقول: ص 517 .

[4] ـ نفس المصدر: ص 517 .

[5] ـ نفس المصدر: ص 516 .

[6] ـ نفس المصدر: ص 517 .

[7] ـ نفس المصدر: ص 525 .

[8] ـ نفس المصدر: ص 519 .

[9] ـ نفس المصدر: ص518 .

 

 

 

 

 

 

 

 

توقيع »
اللهم صل على محمد وال بيت محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم
مؤمنة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



All times are GMT +3. The time now is 10:07 PM.


Powered by vBulletin 3.8.7 © 2000 - 2025