23-03-2013, 06:05 PM
|
#2
|
|
رد: اشكالات واهية
احسنتم ووفقكم الله
وقد اسهب علماءنا والباحثين والمفكرين من اتباع المذهب في الاجابة عن هذا
وما على الفرد الا ان يطالع الكتب التي تحدثت عن هذا الامر ويكفي في الاجابة عن ذلك ما قدم به السيد الشهيد محمد باقر الاصدر قدس سره لكتاب موسوعة الامام المهدي عليه السلان للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدست نفسه الزكية الطاهرة . فقد جاء فيه
فهم يتساءلون! إذا كان المهدي يعبر عن إنسان حي، عاصر كل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظل يعاصر إمداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمر بمرحلة الشيخوخة والهرم، في وقت سابق على ذلك جداً وتؤدي به تلك المرحلة طبيعياً إلى الموت، أو ليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية؟
ويتساءلون أيضاً! لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية، ويفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد مع فجر ذلك اليوم، وينمو كما ينمو الناس، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً؟
ويتساءلون أيضاً! إذا كان المهدي اسماً لشخص محدَّد هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذي ولد سنة 256 هـ، وتوفي أبوه سنة 260 هـ، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه، لا يتجاوز خمس سنوات، وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص لممارسة دوره الكبير، دينياً وفكرياً وعلمياً؟
ويتساءلون أيضاً؟ إذا كان القائد جاهزاً فلماذا كل هذا الانتظار الطويل مئات السنين؟ أو ليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرِّر بروزه على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟
ويتساءلون أيضاً!! كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أو شرعي قاطع؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا نعلم مدى صحتها للتسليم بالفرضية المذكورة؟
ويتساءلون أيضاً بالنسبة إلى ما أعدَّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!!... كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالم، مع أن الفرد مهما كان عظيماً لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ، ويدخل به مرحلة جديدة، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها، وعظمة الفرد هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية، والتغيير العملي عما تتطلبه من حلول؟
ويتساءلون أيضاً!! ما هي الطريقة التي يمكن أن يتصور من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من تحول هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية.
هذه أسئلة قد تردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب، بل هناك مصدر نفسي لها أيضاً، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مرِّ الزمن من هذا الشعور تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي بالهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان، إلى أن يحسَّ نفسياً بإرهاق شديد لمجرد تصور عملية التغيير بالكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته ومظالمه التاريخية، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.
ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعاً، لنقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات.
اولاً ـ كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل؟
وبكلمة أخرى هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير بالعالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة، أي حوالي 14 مرة من عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرُّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟
وكلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معانٍ، الإمكان العملي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي، وأقصد بالإمكان العملي، أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر، أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلاً، فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكل وآخر.
وأقصد بالإمكان العلمي، أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عملياً لي أو لك، أن نمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لك، أن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلا فراق درجة، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلا مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكن عملياً وإن لم يكن ممكناً عملياً فعلاً. وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في بكبد السماء فإنه غير ممكن علمياً، بمعنى إن العلم لا أمل له في وقوع ذلك إذا لا يتصور علمياً وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثل آتواناً هائلاً مستعراً بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطقي، لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربة ـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً فتكون فرداً وزوجاً في وقت واحد وهذا تناقض، والتناقض ومستحيل منطقياً. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية إذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.
وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العلمي، هذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.
ولا شكّ في إن امتداد عمر الإنسان آلاف بالسنين ممكن منطقياً، لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض، لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ولا نقاش في ذلك.
كما لا شك أيضاً ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم، لا يتاح لها من العمر إلا بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمكان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان، فهل تعبّر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه بعد أن تبلغ قمة نموها أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطل في لحظة معينة، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي، أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية نتيجة صراع مع عوامل خارجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب على الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف، أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جاد في الإجابة عليه، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي. فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً، إذا عزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعينة أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحية نفسها بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول: إذا أخذنا بوجهة النظر هذه فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو على افتراض وجوده قانون مرن، لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية، لا زمنية قد تأتي مبكرة وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة، حتى أن الرجل قد يكون طاعناً في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نص على ذلك الأطباء. بل إن العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة على أعمارها الطبيعية، وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.
وبهذا يثبت علمياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معينة أمر ممكن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان فليس ذلك إلا لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة على الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان، سواءً فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلك: أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً، إلا إن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي (عليه الصلاة والسلام) وما أحيط به من استفهام أو استغراب.
ونلاحظ: أنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجاً، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلا استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
فالجواب: أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أو ليست الشريعة الإسلامية ككل، قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟ أوَ لَمْ تنادِ بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلا بعد مئات السنين؟ أوَ لَمْ تأت بتشريعات في غاية الحكمة لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلا قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَ لَمْ تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟! فإذا كنا نؤمن بهذا كله فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة سبحانه وتعالى أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ وأنا هنا لم أتكلم إلا عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسها نحن بصورة مباشرة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة ب السماء نفسها. ومثال ذلك: أنها تخبرنا بأن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد أُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا الإسراء إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية فهو يعبر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يحققه إلا بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول ( صلى الله عليه وآله)، التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء. ولكن أوَ لَيْسَ الدور التغييري الحاسم الذي أعد له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس. وما مرت بهم تطورات التاريخ؟ أوَ ليس قد أُنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه.
فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجه دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟
ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو نوح الذي نص القرآن الكريم على أنه مكث في قومه ألف عام إلا خمسين سنة، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد. والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟
المعجزة والعمر الطويل
وقد عرفنا حتى الآن أن العمر الطويل ممكن علمياً، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً، وأن قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم، لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطها الطويل أن تتغلب عليه، وتغير من ظروفه وشروطه فماذا يعني ذلك؟ أنه يعني إن إطالة عمر الإنسان ( كنوح أو كالمهدي) قروناً متعددة، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل بالتجربة والاستقراء الحديثة، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطلت قانوناً طبيعياً في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نص القرآن والسنة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشد صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويان، وقد عطل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (عليه السلام) حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم (قُلْنَا يَا نارُ كوني بَرْداً وَسَلاماً على إبراهيم)(2).
فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذى، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض ففلق البحر لموسى. وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم.
كل هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أُعِدَّ لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أُعِدَّ لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.
ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي:
كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟
والجواب: إن العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي وتوضيح ذلك: إن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو أنه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية تبين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث، يؤكد أن القانون الطبيعي ـ كما يعرفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية على علاقات السببية فقد كانت وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية فقد كانت وجهة النظر القديمة، تفترض أن كل ظاهرتين اطراد اقتران أحدهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في إن الاستقراء، لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً على الاستثناء فتحدث المعجزة.
ثانياً ـ لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟
ونتناول الآن السؤال الثاني وهو يقول: لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر؟
وبكلمة أخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأن الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمكن التعويض عن أي واحد منهم، غير أن هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود.
وعلى هذا الأساس نقتطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها، في هؤلاء الأئمة المعصومين ونطرح السؤال التالي:
إننا بالنسبة إلى عملية التغيير بالمرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر، عاملاً من عوامل إنجاحها وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟.
ونجيب على ذلك بالإيجاب، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي:
إن عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها مشحوناً، بالشعور، بالتفوق والإحساس، بضآلة الكيانات الشامخة، التي أُعِدَّ للقضاء عليها ولتحويلها حضارياً على عالم جديد، فبقدر ما يعمر قلب القائد المغير من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر.
ومن الواضح أن الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم، بالجور، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحق، لأن من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها لأنه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة، وخلافاً لذلك شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن تر تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الآخر ثم تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ثم رأى الحضارة التي يقدر أن تكوِّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين، ثم شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر، ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى، ثم واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدَّرات عالم بكامله، فإن شخصاً من هذا القبيل عاش كل هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسه لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) إلى الملكية في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير بالوضع السياسي القائم وقتئذٍ، لأن ( روسو) هذا نشأ في ظل الملَكَية وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ، فلهب هيبة التاريخ وقوة التاريخ والشعور المفعم بأن ما حوله من كيان وحضارة، وليد يوم من أيام التاريخ تهيأت له الأسباب فوجد وستتهيأ الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وإن الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلا أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.
هل قرأت سورة الكهف؟ وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور بالتوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودب إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم، ويظلم ويقهر الحق ويصغى كل من يخفق قلبه للحق، هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟ أنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين في ذلك الكهف، ثم بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوته وظلمه، قد تداعى وسقط وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرك ساكناً، كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم، ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكل ما تحمل من زخم وشموخ نفسيين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدد حياتهم ثلاثمائة سنة، فإن الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة، الإعصار وهو مجرد نسمة.
أضف إلى ذلك: أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود، لأنها تضع الشخص المدخّر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ومن ألوان الخطأ والصواب وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكل ملابساتها التاريخية.
ثم إن عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها وخلافاً لذلك الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغيير ضدها، فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعد لاستبدالها لابد أن تكون شخصيته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون في الروح العامة، ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.
|
|
|