08-03-2011, 03:16 AM
|
#9
|
|
سورة الأنعام
57 ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ))، أي أمر واضح بيّن لا غموض فيه ((مِّن رَّبِّي))، أي إنّ تلك البيّنة أتتني من جانب الله سبحانه لا مثلكم أتّبع هوى النفس (( وَكَذَّبْتُم بِهِ))، أي بما أنا عليه من الدليل والبيّنة، وقد كان الكفار يطلبون من الرسول -إستهزاءاً- أن يُنزِل بهم العذاب الذي يعدهم، كما قال سبحانه (ويستعجلونك بالعذاب) فردّ عليهم بقوله ((مَا عِندِي))، أي ليس باختياري وأمري ((مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ))، أي الذي تطلبون سرعته ((إِنِ الْحُكْمُ))، أي ليس الحُكم في باب العذاب ((إِلاَّ لِلّهِ)) فهو وحده ((يَقُصُّ الْحَقَّ))، أي يبيّنه ((وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) الذي يفصّل الأمور فإذا إقتضت المصلحة أتاكم بالعذاب ويفصّل الأمر وتنتهي المشكلة، ومن المعلوم إنّ إنزال العذاب له مقاييس خاصة وأوقات محدودة، فليس كلّ مَن طَلَبَ العذاب يُجاب فوراً وإن كان من أكثر الناس جُرماً.
سورة الأنعام
58 ((قُل)) يارسول الله لهؤلاء الكفار الذين يطلبون سرعة العذاب ((لَّوْ أَنَّ عِندِي))، أي بأمري وإرادتي ((مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)) من إنزال العذاب بكم ((لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)) إذ أُهلِكَكُم فأستريح منكم لكن ذلك بإذن الله ومشيئته ((وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)) وبمقتضى عمله يقدّم العذاب تارة ويؤخّره أخرى.
سورة الأنعام
59 وحيث ذكر علمه سبحانه بالظالمين يأتي السياق ليذكر الكافرين بعلمه سبحانه وقدرته وأعماله في أنفسهم وفي الآفاق، إنها أقوى الأدلة على وجوده وسائر صفاته الكمالية وهل بحاجة بعدها إلى الخوارق التي كانوا يقترحونها لإثبات كلامه (عليه الصلاة والسلام) ((وَعِندَهُ))، أي عند الله سبحانه ((مَفَاتِحُ)) جمع مِفتَح بمعنى المفتاح ((الْغَيْبِ))، أي ما غابَ عن الحواس والمشاعر، فكان الغيب قد سُدّت أبوابه وأُقفِلَت الأبواب فلا يتمكن الإنسان أن يرى ما ورائها وليس بيد الله سبحانه وحده، فهو الذي يعلم الغيب كله ويتمكن أن يفتح تلك الأبواب لمن أراد من خلقه، كما قال: (لا يُظهِر على غيبه أحد إلا مَن ارتضى من رسول) ((لاَ يَعْلَمُهَا))، أي لا يدري ما هي تلك المفاتيح ((إِلاَّ هُوَ))، أي إلا الله سبحانه، وحيث أنّ كشف الغيب يحتاج إلى العلم بالكشف والقدرة على الكشف، وكان المقام مقام بيان عمله سبحانه، قال سبحانه (لا يعلمها) فلا يرد أنّ الأنسب أن يقول: لا يقدر عليها، لا أن يقول (لا يعلمها)، فالأرزاق والآجال وما أشبههما التي تأتي في المستقبل لا يعلمها إلا الله سبحانه ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)) المراد بالبَر: الأعمّ من المدن، والبحر: الأعمّ من الأنهار -بقرينة المقابلة- ((وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ)) من أوراق الأشجار ((وَلاَ)) من ((حَبَّةٍ)) كامنة ((فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ))، أي أجوافها، أو لا تسقط حبّة في باطن الأرض مما تُزلاع أو غيره إلا يعلمها، وقد كان التقابل -بين ما تسقط من ورقة وبين ولا حبّة- لطيفاً جداً، حيث إنّ الأول حركة الحياة إلى الموت والسقوط، والثاني حركة الموت إلى الحياة والإرتفاع ((وَلاَ)) من ((رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ)) من جميع الأشياء والأصناف، وهذا وإن كان أخصّ من الموجودات لأنّ من الأشياء ما لا يتّصف برطوبة ولا يبوسة، يبوسة كالعقل، إلا إنّ العموم يشمله بالفحوى، كثيراً ما يُقال اللفظ الأخص ويُراد الأعم، حيث إنّ الأخص صار مثلاً، كقوله (إن تستغفر لهم سبعين مرة) فإنّ الأكثر داخل بالفحوى ((إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ))، أي إنّ جميع الأشياء محفوظة عند الله سبحانه في كتاب واضح جلي هو اللوح المحفوظ، أو المراد بالكتاب علمه الشامل، ولعلّ التعبير بالكتاب لأجل بيان أنه محفوظ لا يزول كما إنّ الكتاب كذلك.
سورة الأنعام
60 ((وَهُوَ)) سبحانه كما يعلم الأشياء كذلك تجري الأشياء بقدرته وإرادته، فأنتم أيها البشر تحت قبضته وأمره، فإنه ((الَّذِي يَتَوَفَّاكُم)) أيها البشر ((بِاللَّيْلِ))، أي يقبض أرواحكم عن التصرّف، والتوفّي أخذ الشيء كاملاً ومنه الوفاة، فإنّ الإنسان إذا نام أخَذَ الله روحه المتصرّفة التي تبصر وتسمع وتذوق وتلمس وتشم، وهذه الآية كقوله سبحانه (الله يتوفّى الأنفس حين موتها) وإنما الفرق أنّ الموت توفّي بمعنى أتم من التوفّي بمعنى النوم ((وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم))، أي ما كسبتم وفعلتم، أي عملتم بالجارحة ((بِالنَّهَارِ)) وهذا التفصيل خارج مجرى الغالب، وإلا فهو يتوفّى بالنهار لمن نام فيه، ويعلم ما جَرَحَ الإنسان بالليل لمن عمل فيه ((ثُمَّ)) بعد توفّيكم بالليل ((يَبْعَثُكُمْ))، أي يوقظكم وينبّهكم من نومكم ((فِيهِ))، أي في النهار ((لِيُقْضَى))، أي لينتهي ((أَجَلٌ مُّسَمًّى))، أي أمدّكم الذي سمّاه سبحانه في اللوح المحفوظ، يعني إنه إنما يوقظكم في النهار حتى لا يموت الإنسان قبل وقته ((ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)) بعد تمام المدة وإنتهاء الأمد ترجعون إليه سبحانه في الآخرة، والمراد إلى حسابه، وإلا فليس له سبحانه محل، فإنه منزّه عن الزمان والمكان ((ثُمَّ يُنَبِّئُكُم))، أي يُخبركم -بعد رجوعكم إليه- ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) ليُعطي كلّ ذي جزاء جزاءه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
سورة الأنعام
61 ((وَهُوَ)) سبحانه ((الْقَاهِرُ))، أي القادر الذي قهر ويجبر كما يشاء ((فَوْقَ عِبَادِهِ))، أي مستعلي عليهم، فإنّ من يتصرّف في الإنسان يكون فوقه رتبة، وليس المراد الفوقية الحقيقية، فإنه منزّه عن المكان ((وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً)) جمع حافظ، وهم الملائكة الذين يبعثهم الله تعالى لحفظ الإنسان عن العطب، وحفظ أعماله في دفاتر سجلات ليجزي كلّاً حسب ما عمل ((حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)) وصار وقت أن يموت تركه الحافظ له وأسلمه إلى حتفه ((تَوَفَّتْهُ))، أي قبضت روحه كاملة ((رُسُلُنَا))، أي الملائكة المرسلة لأجل هذه الغاية ((وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) بأن يقدّموا أخذ الروح أو يؤخروه، أو يشدّدوا في الفزع أو يخفّفوا بل يفعلون ما يُؤمرون، وإنما أتى بلفظ (رُسُلنا) جمعاً لأنّ لمَلَك الموت أعواناً كما ثَبَتَ من السنّة، ولعلّ في قوله (الذين توفّاهم الملائكة) دلالة عليه.
سورة الأنعام
62 ((ثُمَّ)) بعدما أخذت الملائكة أرواحهم ((رُدُّواْ))، أي رجعت أرواحهم ((إِلَى اللّهِ))، أي في المكان المهيّأ لهم من قِبَله سبحانه ((مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ))، أي سيّدهم بالحقيقة لا مثل سيادة الأصنام عليهم ((أَلاَ)) فلينتبه الناس أنّ ((لَهُ)) وحده ((الْحُكْمُ)) في جميع الأمور الكونية، حتى قَبَضَ أرواحهم ومحاسبتهم هناك ((وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) وحسابه سريع لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه حساب المحاسِبين من الوقت ونحوه، فليس هناك بطوء في الحساب حتى يكون للمحاسِب مجال وسيع حتى يتم حسابه.
|
|
|