سورة الأنعام
27
((وَلَوْ تَرَىَ)) يارسول الله أحوالهم في الآخرة وكيف أنهم يندمون وأفرطوا في دار الدنيا ((إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ))، أي أشرفوا واطّلعوا ووقفوا على حافّتها لدخولها ((فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ))، أي يرجعوننا إلى الدنيا ((وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا)) دلائله وبراهينه ((وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) بالله والرسول وماء به، وجملتا (لا نكذّب) و(نكون) من مدخول التمنّي والتقدير ياليت لنا إنتفاء التكذيب والكون من المؤمنين.
سورة الأنعام
28
((بَلْ بَدَا لَهُم))، أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليّاً بحيث لا مجال لإخفائهم له ((مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ)) في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولعلّ وجه الإضراب بـ (بل) بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم لو رُدّوا إلى الدنيا لآمنوا فإنّ التمنّي الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه ((وَلَوْ رُدُّواْ)) إلى الدنيا كما تمنّوا ((لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ))، أي لرجعوا إلى كفرهم وعصيانهم ((وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) في أنهم لو رُدّوا لعملوا صالحاً كما في آية أخرى (ربّ ارجِعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت) ولا يخفى أنّ الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى ولو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهَد المجرّب.
سورة الأنعام
29
وقد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد وهم في دار الدنيا ((وَقَالُواْ إِنْ هِيَ))ن أي ما هي ((إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا))، أي الحياة القريبة التي نحن فيها وليس ورائها شيء ((وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)) بعد الموت والبعث هو الإرسال والإحياء.
سورة الأنعام
30
((وَلَوْ تَرَى)) يارسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة ((إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ))، أي في معرض خطابه وحسابه، كالشخص الذي يقف عند الملك وهو مجرم فإنه في حال يأس واضطراب ما ينطق الملك في حقه من العقاب، ومن المعلوم أنّ الله لا يُرى وليس بجسم ولا له مكان فالمعنى على سبيل المجاز ((قَالَ)) ربهم لهم ((أَلَيْسَ هَذَا)) اليوم الذي كان يخبر به الأنبياء وكنتم تنكرونه ((بِالْحَقِّ)) وهو إستفهام توبيخ وتقريع ((قَالُواْ)) مقرّين مذعنين ((بَلَى)) هو حق((وَرَبِّنَا)) وإنما حلفوا خوفاً فإنّ الخائن يردف كلامه بالحلف إستمالة لقلب المخوف منه وإظهاراً لأنه يوافق كلام المتكلّم ((قَالَ)) الله سبحانه ((فَذُوقُواْ العَذَابَ)) والمراد بالذوق ليست الذائقة اللسانية بل ذوق الجسد فإنه يُطلق عليهما ((بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، أي بسبب كفركم، وكان السؤال للإهانة والإذلال.
سورة الأنعام
31
ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله ((قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ)) المراد بلقاء الله جزائه وعقابه كما يُقال: فلان لقي عمله، أي جزاء عمله وإلا فليس لله مكان يُرى ((حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ))، أي القيامة ((بَغْتَةً))، أي فجأة من بغت يبغت بمعنى فجأ وإنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حسابها حتى يستعدوا لها، وهل المراد بالساعة الموت -كما ورد: من مات قامت قيامته- حتى يلائم ما بعده أم المراد القيامة ويكون المراد العذاب الشديد لأنّ عذاب الآخرة أشد من عذاب القبر، إحتمالان ((قَالُواْ))، أي قال هؤلاء الكفار عند معاينة الأهوال والعذاب ((يَا حَسْرَتَنَا)) الحسرة شدة الندم يعني أيتها الحسرة أحضري فهذا وقتك ((عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا))، أي على ما تركنا وضيّعنا في الدنيا من أعمارنا ولم نقدّم عملاً صالحاً ننتفع به في هذا اليوم ((وَهُمْ))، أي هؤلاء الكفار ((يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ)) الوِزر الثقل وحيث أنّ للذنوب ثقلاً تُسمى أوزاراً ((عَلَى ظُهُورِهِمْ)) هذا من باب التشبيه فكما أنّ مَن يحمل ثقلاً على ظهره يكون في تعب وحرج كذلك مَن يحمل ذنباً ومنه عليه دَين ((أَلاَ)) للتنبيه ((سَاء))، أي بئس ((ما يَزِرُونَ))، أي ما يحملون من وِزر بمعنى إثم وحمل خطاءً.
سورة الأنعام
32
((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، أي ليست الحياة القريبة التي إغترّ بها الكفار فعملوا لها وتركوا آخرتهم ((إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) اللهو هو ما يُلهي الإنسان عن الجد إلى الهزل، فإنّ الدنيا ليست إلا ألعاباً وملهيات، وإنما كانت كذلك لأنه لا حقيقة لأعمالها فهي فانية زائلة وإذا بالإنسان يرى نفسه ولم يحصل شيئاً وغير خافِ أنّ ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي لا تعقب ثمرة صالحة، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة ونِعم متجر العقلاء ((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ)) اللام للتأكيد، أي إنّ الدار الثانية التي هي الجنة ونعيمها ((خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ)) معاصي الله، وقد جرّد (خير) عن معنى التفضيل، أو بملاحظة أنّ في الدنيا أيضاً خيراً في الجملة، ثم أنها خير للمتقين، أما غيرهم فالدنيا خير لهم ولذا وَرَدَ " "أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" ((أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) أيها البشر، فإنّ مَن عَقِلَ وأدرك عَلِمَ أنّ الباقي السرمدي الذي لا يشوبه حزن وهَم خير من الفاني المزيج بأنواع المصائب والرزايا.
سورة الأنعام
33
ثم سلّى سبحانه نبيّه على تكذيبهم إياه وعدم إنصياعهم لأوامره وإرشاده بقوله ((قَدْ نَعْلَمُ)) يارسول الله، و(قد) تُستعمل في المضارع للتحقيق، إلا إنّ الغالب أنها فيه للتقليل ((إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) مما سنيبونه إليك من أنّك شاعر وكاهن ومجنون وما أشبه ذلك من السُباب والإستهزاء الذي كانوا يُكيلونه للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((فَإِنَّهُمْ))، أي الكفار ((لاَ يُكَذِّبُونَكَ)) يارسول الله في قرارة نفوسهم لعلمهم أنك صادق، وهذا نوع من التسلية، إذ الإنسان إذا عَلِمَ أنّ عدوّه يُجلّه في قرارة نفسه كان ذلك سلوة له لما عَلِمَه من الإحترام الكامن، قالوا: إلتقى أخنس بن شريف وأبو جهل بن هشام فقال أخنس: ياأبا الحَكَم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إنّ محمداً لصادق وما كَذَبَ قط ولكن إذا ذَهَبَ بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟، فنزلت هذه الآية، وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) معنى آخر للآية حاصله إنهم لا يُكذّبونك بحُجّة ولا يتمكنون من إبطال ما جئتَ به ببرهان ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ)) وهم الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وغيرهم بالمنع عن الإسلام ((بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ))، أي ينكرون آيات الله كما قال سبحانه (وجَحَدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
سورة الأنعام
34
ثم ذكر سبحانه تسلية للنبي أنه ليس بأول رسول يُكذّب بقوله ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ)) ليس تنكير الرُسُل لأنه ليس هناك رسول بكذب، حتى يُنافي قوله (ياحسرةً على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) المفيد لتكذيب كلّ رسول وإنما الكلام حيث جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الإلماع، إلا أنّ هذا الجنس أيضاً في معرض التكذيب والإزدراء ((فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ))، أي على تكذيب الناس لهم ((وَأُوذُواْ)) أما عطف على (كُذّبوا) أو على (كذّبت) ((حَتَّى أَتَاهُمْ))، أي جائهم ((نَصْرُنَا)) إياهم على المكذّبين، فاصبر أنت يارسول الله حتى يأتيك النصر ((وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ))، اي لا أحد يقدر على تغيير ما أخبر به من نصر الرُسُل وإهلاك أعدائهم ((وَلَقدْ جَاءكَ)) يارسول الله ((مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ))، أي بعض أخبار الرُسُل السابقين كيف نصرناهم على أعدائهم.