عرض مشاركة واحدة
قديم 16-10-2011, 10:55 PM   #2

 
الصورة الرمزية سرقوحقي

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 479
تـاريخ التسجيـل : Sep 2011
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : العراق بابل
االمشاركات : 90

افتراضي رد: سيرة الشهيد اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر

فكر الشهيد وآرائه الحركية
علينا أن نقف أولاً عند القاعدة الفكرية، والفقهية، والسياسية التي انطلق منها الشهيد الصدر لخوض غمار المواجهة القاسية. يمكن أن نوجز هذه المنطلقات والركائز الأولى فيما يلي:
1 ــ أول تلك الركائز التي اعتمد عليها السيد الشهيد، (ضرورة السعي لإقامة دولة الحق)، ذلك أن قضية الإمام المنتظر المهدي (ع) لم تكن تعني في فهم السيد الشهيد الموقف السلبي من الأحداث، والابتعاد عن تحمل المسؤولية الضخمة في توجيه الأمة، وتحصينها، وحفظ الشريعة، والعمل على تطبيقها وتركيز دعائمها بل كانت تعني العكس تماماً. "حينما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي.. يراد الإيحاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي، تجسدت فعلاً في القائد المنتظر.. وأن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له".
2 ــ وثاني تلك الركائز التي اعتمدها أن (الطريق الثوري هو السبيل لإقامة دولة الحق) وليس الطريق الإصلاحي، وفي هذا السبيل فإن بذل الأنفس والدماء من أجل إقامة دولة الحق أمر مشروع، لا مبرر للتوقف عنه على حساب الهدف.
من ناحية فإن مواجهة الظالمين غير ممكن بدون ذلك، وهم سيقفون أمام كل عمل إسلامي مهما كان ضئيلاً، ويحاولون تصفية آخر قلاع الإسلام. وحتى آخر مظهر من مظاهر الإسلام.
ومع استحكام قبضة الظالمين، أعداء الإسلام، لا يكون السبيل إلى إحياء الأمة وتطبيق الشريعة مجرد النصح والتوجيه، والإصلاح، بل لابد من خوض غمار ثورة لا تهدأ، تكون نهايتها لصالح الإسلام.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، فإن أخلاقية الهزيمة التي تعيشها أمة الإسلام، لا يمكن اقتلاعها، ولا يمكن إعادة الروح الحية المسؤولة، والتلاحم الكامل مع الهدف (إقامة دولة الحق) إلا بدماء زكية، تذكر الأمة بكراماتها، وبطولتها، وتأريخها المجيد، وتحي فيها روح الأمل، والطموح والتضحية.
وقد كان شهيدنا العظيم، يؤكد أنه لابد من دم كدم الحسين (ع) يعيد للأمة يقظتها، وحيويتها. يبقى مسألة حساب الأرباح والخسائر. هل يكون تحمل العطاء الجسيم في الأرواح والأموال هيناً في سبيل الهدف المنشود (إقامة دولة الحق)؟
وهل يكون اقتحام هذا السبيل الدموي، والتضحية بخيرة أبناء الأمة الإسلامية، أمراً يتضاءل ويتصاغر أمام الغاية المطلوبة؟ أم أن التضحية أكبر من الأرباح؟ والدماء أعز من إقامة حكم الله؟
في هذا الحساب كانت رؤية السيد الشهيد واضحة وقاطعة، إن كل شيء يهون في سبيل النهوض بالأمة الإسلامية، وإعادة الحق إلى أهل الحق، وأي تردد في ذلك يعبر عن انهزامية، وتقاعس من تحمل الدور الواجب.
3 ــ وثالث الركائز التي اعتمدها الشهيد الصدر في حركته المواجهية، أن الفكر الإسلامي استطاع أن يهزم حضارة الشرق والغرب، وانتصر الإسلام في معركة الفكر والحضارات، ويبقى الانتصار السياسي.
لقد استطاع الشهيد العظيم شخصياً أن يطرح الفكر الإسلامي للأمة الإسلامية وللعالم أجمع، طرحاً حياً معاصراً، مؤكداً بذلك حقيقة أن الفكر الإسلامي لا يغلب في شتى المجالات. لكن الفكر وحده لا يستطيع أن يصنع كل شيء.
وأعداء الأمة الإسلامية، والكفر العالمي، لئن لم يستطع منازلة الفكر الإسلامي، فإنه قد استطاع أن يضلل أبناء الإسلام ويحجبهم عن حضارتهم الإسلامية، متوسلاً إلى ذلك بكل السبل المتاحة له، بما فيها مطاردة الحريات، وتصفية حملة الرسالة، وخنق الأمة عن ممارسة حتى شعائر إسلامها.. الفكر وحده لا يستطيع أن يصنع كل شيء. لابد من قيادة إسلامية مغامرة. لابد من قيادة تقصم ظهر الظالمين، وتكسر عن الأمة الإسلامية طوق الحصار الشامل.
هكذا كانت رؤية المفكر العظيم والشهيد العظيم. وبوحي من ذلك فإن عليه أن يكون شهيداً عظيماً، كما كان مفكراً عظيماً، عليه أن يتقدم صفوف الأمة جهاراً، وإن كلفه ذلك حياته، لكن هذا هو الجزء الآخر من الواجب.
4 ــ المرجعية الدينية هي المسؤولة عن توجيه الأمة فكرياً، وقيادتها سياسياً.
وعلى المرجعية الرشيدة أن تتصدى لأداء هذه المهمة العظيمة في كلا جانبيها الفكري، والسياسي.
وفي هذا كتب الشهيد الصدر يقول:
يمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة في خمس نقاط:
1 ــ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين.
2 ــ إيجاد تيار فكري واسع في الأمة.
3 ــ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي.
4 ــ القيمومة على العمل الإسلامي.
5 ــ إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة.
5 ــ والمرجعية الدينية ليست مسؤولة فقط، بل هي وحدها القادرة على توجيه الأمة، وقيادتها ثم ضمان المسيرة، وتأمينها من الانحرافات المحتملة. وهذا جانب من اطروحة (خط المرجعية) الذي تبناه الشهيد الصدر.
إن المرجعية من خلال نفوذها في عمق الأمة الإسلامية هي وحدها القادرة سياسياً على النهوض بالأمة، ومن ثم استلام زمام الحكم والدولة.
"إن الشعب.. يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحية، ومرجعيته الدينية الرشيدة التحاماً كاملاً."
هذا مضافاً إلى أن:
المرجعية الدينية والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف.
وهذه نقطة فرق أساسية، وحد فاصل بين أطروحة (خط المرجعية) التي تبناها السيد الشهيد وبين الأطروحة الحزبية، التي ترى أن الأحزاب والتنظيمات السياسية هي الأقدر، والأجدر سياسياً على المسك بزمام الأمة، والنهوض بها نحو إقامة الحكم الإسلامي.
لقد اكد السيد الشهيد دوماً على أن الأحزاب والتنظيمات الإسلامية السياسية رغم ضرورتها، وقدرتها على التأثير في جسم الأمة. إلا أن خط المرجعية الممتد في جسم الأمة بكافة مستوياتها وطبقاتها من خلال (الروحانية) هو الأقدر من ناحية سياسية، (ووحده من الناحية الشرعية كما سيأتي) على تحقيق الثورة الإسلامية الناجحة بدءاً ومستقبلاً.
ومن ناحية ثالثة فالمرجعية الدينية هي وحدها التي تملك حق الشهادة، والولاية الشرعية على الأمة، وبالتالي فإن شرعية التحرك السياسي يجب أن تستمد منها:
"خط الشهادة ــ القيادة والولاية ــ يتحمل مسؤولية المرجع على أساس أن المرجعية امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط".
ويمكن أن نحلل هذه النقطة في فكر السيد الشهيد إلى أمرين:
الأول: ولاية الفقيه على الأمة، ونفوذ أوامره، وأحكامه عليها من ناحية شرعية.
الثاني: أن هذه الولاية ليست لكل فقيه، إنما هي فقط للفقيه المرجع، الذي أعطته الأمة قيادها، ودانت له بالولاء والطاعة. يتحدث (رحمه الله) عن المرجعية قائلا:
"يجب أن يتوفر في الشخص الذي يجسد هذه المقولة:
أولاً: صفات المرجع الديني في الاجتهاد المطلق والعدالة.
ثانياً: أن يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وأبحاثه واضحاً في الإيمان بالدولة الإسلامية وضرورة حمايتها.
ثالثا: أن تكون مرجعيته بالفعل في الأمة بالطرق الطبيعية المتبعة تأريخياً".
الثورة الإسلامية في إيران
وفيما يتعلق بالثورة الإسلامية في إيران فرغ السيد الشهيد من القضايا التالية، معتبراً إياها حقائق أساسية بنى عليها موقفه العملي تجاه الثورة:
أولا: أصالة الثورة وإسلاميتها. وهي إسلامية في أصل حدوثها وإسلامية في طريقة تحركها، وإسلامية في الأهداف التي تطمح لها. وفي رسالته التي أبرقها للشعب الإيراني المسلم أيام الثورة قال:
".. في كل هذه الملاحم ــ ملاحم الثورة ــ نلاحظ أن الروح الدينية كانت هي المعين الذي لا ينضب للحركة، وأن الشعارات الإسلامية العظيمة كانت هي الشعارات المطروحة على الساحة، وأن المرجعية الرشيدة كانت هي الزعامة التي تلتف حولها جماهير الشعب المؤمنة وتستلهمها في صمودها وجهادها".
ثانياً: وإذا كانت هناك احتمالات تشاؤمية تقول أن الثورة سوف تسرق من يد الإسلام، وتعود قبضة المستعمر الكافر أشد وأقسى رغم التضحية بعشرات الآلاف من أبناء الأمة. فقد كان السيد الشهيد يفهم أن هذه الاحتمالات ستكون حقيقة، وتتحول إلى واقع في فرض واحد وهو أن تخذل هذه الثورة من قبل علماء الدين ومراجع الأمة، أما إذا انتصر كل علماء الدين ومعهم الشعب، لهذه الثورة، وجهدوا في توجيه وتصحيح مسارهان فإن احتمال سرقتها ومصادرتها من قبل المفسدين والمتآمرين يصبح هزيلاً.
ومعنى ذلك أن أي تساهل وتقاعس منبثق عن التشكيك في إسلامية هذه الثورة، أو التشكيك في مستقبلها، هو هروب عن المسؤولية، وخذلان الحق الذي يجب أن ينتصر له.
ثالثاً: ولئن استطاعت ثورة الشعب المظفرة في إيران أن تنتصر، وتبرهن لكل العالم عن شموخها، وشموخ إسلامها، وعظمة قيادتها، فإن على أبناء الأمة الإسلامية في كل مكان أن يجهدوا لتكرار هذه التجربة في أوطانهم، والسعي لطرد المستعمر الكافر، وتطبيق حكومة الإسلام. إن الثورة الإسلامية يجب أن لا تبقى بتراء، ولا معزولة، ولا إقليمية، وأنها في إيران إنما تعبر عن نموذج رائع، على المسلمين الطموح في أوطانهم، وفي العالم كله.
دراسة مقارنة لظروف الثورة
كانت هناك تأملات طويلة أجرها السيد الصدر وهو يفكر في التحرك السياسي المواجهي ضد حكومة البعث في العراق.
هذه التأملات كانت تنصب على المقارنة بين ظروف الثورة في كل من إيران، والعراق، من زاوية الشعب، والسياسة الحاكمة، وقيادة المرجعية للثورة، ونفوذ الروحانية وحجم تواجدهم في الأمة.
من هذه الزوايا الثلاث كانت تبدوا فوارق أساسية بين (إيران) و(العراق)، تفيد أن الشروط الموضوعية لنجاح الثورة في العراق ما تزال غير مكتملة.
1 ــ لقد كانت درجة الوعي الديني والسياسي للشعب المسلم في إيران أكبر منها بكثير في الشعب العراقي، إلى حد ممكن القول معه، أن الوعي الديني والسياسي في العراق كانت مفقوداً ما عدا في فئة قليلة من الناس وفي خصوص المثقفين منهم. ومهما كانت العوامل وراء ذلك ــ وهي عديدة ــ فإنها لا تغير من صحة الملاحظة المذكورة، ويبقى الفارق في درجة الوعي فارقاً ضخماً وملحوظاً جداً.
2 ــ على أن سياسة النظامين (الشاهنشاهي في إيران والبعثي في العراق) تختلف اختلافا استراتيجياً. فالخندق الموجود في العراق، وتظاهر النظام بأنه عدو لأمريكا، وللأمبريالية العالمية، والقبضة الحديدية الإرهابية تجعل ظروف الثورة في العراق صعبة جداً ولا يمكن مقايستها بإيران. لقد كانت هوية الشاه الأمريكية واضحة ومكشوفة لدى الشعب. وكانت الأيادي اليهودية متحكمة في إيران علناً. وكما أن الحرية ــ مهما تكن شكلية ومقنعة ومضغوطة ــ كانت محفوظة في إيران، بينما استعباد عقول الناس وضمائرهم في العراق كان هو المحفوظ علناً.
3 ــ كما أن الروحانية (رجال الدين). كانت نافذة في كل سطوح الشعب الإيراني المسلم، وعلاقة الشعب بها علاقة ملؤها الثقة والاطمئنان والمحبة. وهذا على العكس تماماً هو في العراق، فالروحانية ضعيفة جداً ومغلقة على نفسها، وليس لها امتداد إلى صفوف الأمة إلا فيما ندر. ونحن نعرف أن (الروحانية) كانوا هم الأصابع الأساسية المحركة للثورة الجماهيرية في إيران، أما إذا فقدتهم الساحة العراقية، أو كان وجودهم ضعيفاً للغاية، فإن إمكانية التحرك الجماهيري ستكون شبه مستحيلة.
ومن ناحية أخرى فإن معظم (الروحانيين) في العراق لم تكن الثورة الإسلامية أمراً يهمهم، فهم أقرب إلى العقود منهم إلى الحركة، وطموحهم إلى إقامة حكم إسلامي مفقود إلى درجة الصفر، بل كانت ثقتهم مسلوبة تماماً بالثورة الإسلامية التي نجحت في إيران، فكيف يتوقع منهم المشاركة في تحرك إسلامي في العراق على غرار ما حدث في إيران.
إذن، معظم الروحانيين في العراق لم يكونوا متعاطفين مع التحرك الإسلامي، مما يعني أن الأصابع التي تحرك الجماهير العراقية كانت ضعيفة أو مفقودة. ولعل هذا أهم العوامل التي فتت بعضد الثورة وبعضد السيد الصدر حين عزم على مواجهة حكومة البعث. وقد كان السيد الصدر مدركاً لهذه لحقيقة تماماً، ووضعت للدرس والتأمل لدى المقارنة بين ظروف الثورة في كل من إيران والعراق.
4 ــ كما أن مرجعية السيد الصدر ذاته لم تكن تستوعب تمام الشعب العراقي، وهذا تماماً على عكس مرجعية الإمام الخميني حين قاد الثورة في إيران. وهذه نقطة فرق أخرى تجعل الثورة في العراق أصعب وأبعد عن النجاح.
لقد لاحظ السيد الشهيد تماماً هذه النقاط الأربعة. وقبل أن يبدأ بالتحرك الجماهيري كان قد وضعها قيد الدرس. ومع ذلك فقد صمم على البدأ بالتحرك المتناسب مع حجم مرجعيته، وطبيعة الظروف المشار إليها سابقا. لماذا؟ الحسابات كلها تشير وتؤكد أن الثورة في العراق تواجه الطريق المسدود، فلماذا بدأها السيد الشهيد؟
ملاحظات إيجابية
وقبل أن نجيب على هذا السؤال، يجدر أن نشير إلى أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران أحدث (والكلام عن الساحة العراقية) تغيرات هامة وضعها السيد الشهيد بالحساب، وتعتبر هذه التغيرات نقاط إيجابية تؤيد الشروع بتحرك إسلامي عريض وسريع في العراق. كان من أهم تلك التغيرات الجديدة ما يلي:
أولاً: تصاعد ثقة الشعب بالإسلام كنظام قادر على الحكم، وتصاعد ثقتهم بعلماء الدين الذين استطاعوا بقيادة الإمام الخميني أن يحطموا أكبر عرش في الشرق الأوسط.
ثانياً: تصاعد الطموح إلى حكم إسلامي، والخلاص من الأنظمة الوضعية البعيدة عن الإسلام. رغم أنه تصاعد عاطفي إلى حد كبير، إلا أن التفريط به وإهماله لا يمكن أن يكون لصالح التيار الديني، ومحاولة تعميقه.
ثالثا: ولئن كان الشعب العراقي ينقصه كثيراً عنصر الوعي الديني والسياسي، كما أنه يقل في صفوفه تواجد حملة الرسالة والوعي من رجال الدين (الروحانيين)، فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران قد مكّن ويسّر الاتصال بالشعب العراقي اتصالاً مباشراً عن طريق (المذياع) اتصالاً في مجال التثقيف الديني، والتوعية السياسة، وهو اتصال مباشر قد يخفف إلى حد ما (ولو قليل جداً) من مشكلة ضعف وجود الروحانية في الساحة، وقلة الوعي الديني والسياسي لعامة الشعب.
هذه الملاحظات الإيجابية وضعها السيد الشهيد في الحساب لدى المقارنة بين ظروف الثورة في إيران، وظروف الثورة الإسلامية المزمع عليها في العراق. لكن هل كانت هذه الملاحظات الإيجابية، والتغييرات المستجدة بحجم تلك الثغرات التي تشهدها الساحة العراقية، والتي تجعل الفاصلة بينهما وبين ظروف الثورة في إيران كبيرة جداً؟ وهل كانت هذه الملاحظات الإيجابية ــ بالحساب السياسي ــ أقوى من الملاحظات السلبية التي أشرنا إليها آنفاً؟ وكم هو احتمال نجاح الحركة في العراق مع أخذ مجموع تلك الملاحظات بعين الاعتبار؟ النتيجة مرة أخرى ليست حسنة، ولا مشجعة!
وما تزال الشروط الموضوعية لنجاح الثورة غير مكتملة أبداً! ومع ذلك فقد أزمع السيد الشهيد على الحركة، وهو عارف مقدماً بمستقبلها.. لماذا؟ هل كان اندفاعه عاطفياً!؟ أم هل كان عملاً انتحارياً!؟ أم هل كانت غفلة عن تلك الحسابات الواضحة عنده!؟ لم يكن هذا ولا ذاك!
إن ثورة الإمام الحسين (ع) تواجه نفس هذه الأسئلة، وفلسفة ثورة الحسين (ع) ــ إذا استوعبناها ــ تعطينا التحليل الكامل ــ من زاوية دينية ومن زاوية سياسية ــ لحركة حفيد الحسين (ع) السيد الصدر. ممكن أن نوجزها سريعاً في النقاط التالية:
أولاً: معالجة أخلاقية الهزيمة التي هيمنت على الأمة، وزرع روح التصدي والمعارضة والرفض فيها.
ثانياً: تعرية النظام الحاكم، وكشف هويته الكافرة للشعب، ولو كان ذلك يكلف حياة السيد الشهيد نفسه.
ثالثا: أن المواجهة مع نظام البعث لا مفر منها إلا بالتنازل عن الوجود الإسلامي تماماً ذلك أن نظام البعث كان يحسب للسيد الشهيد (بوصفه رمزاً للتيار الإسلامي) أنفاسه، وحركاته الصغيرة والكبيرة، وهو يتربص به الدوائر في كل لحظة، فلم يكن السكوت أدعى إلى الأمان من التحرك.
وكما كان الإمام الحسين (ع) مقتولاً، ولو تعلق بأستار الكعبة، هكذا كان السيد الصدر. كان لابد أن يمسك زمام المبادرة! كان لابد أن يفاجئ النظام قبل أن يقتل وهو على الفراش، وتقتل الأمة كلها. كان لابد أن يكتب بدمه لأمته أن الكفر هو الذي يحكمهم وأنهم لابد أن يصارعوه، قبل أن يبادر العدو إلى قتله، ثم يمسح على آثار الجريمة، ويكون الصدر قتيل الجن! وليس قتيل البعث الكافر.
هذه أبعاد موجزة وسريعة جداً نلفت إليها نظر الباحثين عن البعد الديني والسياسي لحركة السيد الصدر، حفيد الرسول (ص)، وحامل علوم القرآن، ورافع راية الإسلام.
وبالتأكيد فإننا لم نسجل في هذا العرض إلا الإشارة السريعة تاركين إلى القارئ متابعة البحث والتأمل. وأخيراً:
لم يكن السيد الصدر مفكراً إسلامياً عظيماً فحسب. لقد كان مفكراً، وكان سياسياً، وكان ثائراً، من أجل يقظة أمته، وهاهو قد فداها بدمه، فماذا كان، وماذا سيكون؟
الضبط الحوزوي
نتيجة لفقدان المرجعية الرشيدة في هذه المرحلة التي نؤرخ لها ونتيجة لضغوط السلطة الكافرة ومكائدها، عمت الحوزة العلمية حالة من الضياع العلمي ــ إن صح التعبير ــ وعدم السلامة في التوجه الديني والسياسي لدى الكثيرين، الأمر الذي دعا سيدنا الشهيد رضوان الله عليه للتفكير في التغلب على هذا الخطر، فلابد إذن من بناء الأشخاص الداخلين في سلك الحوزة على روح الجد والاتقان العلمي، كما لابد من رقابة التوجيهات السياسية والأخلاقية للجيل الحوزوي الذي يراد بناؤه من أجل الوصول إلى حالة الضغط الحوزوي، والاتقان العلمي، وسلامة الوسط الحوزوي من مختلف الأمراض والانحرافات الفكرية والنفسية، قام السيد الشهيد بعدة أعمال، وطرح عدة مشاريع، واستطاع بها أن يبذر البذرة الأولى للضغط والاتقان والسلامة.
لقد شجع الدراسة الخاضعة للإشراف المدرسي، فكانت (الدورة العلمية التي أسسها المغفور له السيد الحكيم رضوان الله عليه محل رعاية السيد الشهيد الكاملة حتى كان تلامذته هم الموجهون والمدرسون والمشرفون عليها.. كما شجع، عموماً رقابة الوضع العلمي والأخلاقي والسياسي للطلبة، وذلك من خلال امتحانات دورية تشرف على السير الدراسي لهم، وتضع لهم المنهج الصحيح، وتقدم لهم التوصيات اللازمة، واضافة إلى أنها مجال تقييم الاشخاص واكتشافهم.
ومن جملة ما عمله السيد الشهيد في هذا السبيل مشروع (المدارس الخاصة)، الذي يهدف إلى تنظيم وضع المدارس العلمية بحيث تتكفل برعاية شؤون الطلبة المعيشية والسكنية، شريطة أن يخضع طالب العلم لإشرافها وتوجيهاتها.. ومجمل هذه الأعمال والمشاريع قد شرحناه في كتاب الجهاد السياسي للسيد الشهيد الصدر ندعو القارئ الكريم لمراجعته.
الارتباط الحقيقي بالمرجعية
وقد جهد السيد الشهيد في تأكيد الصلة بين طلبة العلوم الدينية في الحوزة وبين المرجعية الرشيدة بوصفها الموجه الحقيقي الأول. فقد كانت الحوزة العلمية تشكو حالة تحلل من ناحية، والارتباط بقيادات أخرى غير المرجعية الدينية، من ناحية أخرى، وكلا هذين الأمرين! التحلل والارتباط بقيادة أخرى، كانا يمثلان في تصور السيد الشهيد خطر على مستقبل الحوزة العلمية.
من هنا فقد جهد في معالجة كلا هذين الأمرين. أما فيما يخص الأمر الثاني فقد أصدر ــ قدس الله نفسه الشريفة ــ فتوى قاطعة بتحريم ارتباط طلبة العلوم الدينية بأية قيادة أخرى غير قيادة المرجعية الدينية، وتحريم انتمائهم إلى كتلة وكيان تنظيمي غير الكيان الحوزوي الذي يرتبط بالمرجعية الدينية وبباقي الفقهاء والعلماء، وباعتقادنا أن السيد الشهيد بهذا الموقف العظيم قد رسم خطاً سليماً لسير الحوزة نحو الرشد، وانقاذها من مهوى سحيق كانت تنزلق فيه.
الروح الجهادية
في الوقت الذي كانت فيه الروح الجهادية في الحوزة العلمية تقترب نحو الأفول، جاء سيدنا الشهيد ليبني جيلاً حوزوياً مجاهداً يعرف العلم بوصفه طريقاً ووسيلة، طريقاً لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، فكان يبث في تلامذته هذه من خلال القول ومن خلال العمل حتى كانت كل حياته وعمره الشريف حياة جهاد مرير، ومطاردة وملاحقة من قبل الظالمين، وحتى قدم بشهادته الشريفة منهجاً لكل علماء الدين، وطلبة العلوم الدينية، ونقلهم من حالة المواجهة والوقوف بوجه الباطل.
إننا نعتقد أن هذا الأمر كان تغييراً كبيراً في عالم الحوزة العلمية التي كانت تعيش في النجف الأشرف وإلى يومنا هذا، ولا تظهر قيمة هذا الدرس العظيم بعدة من تلامذته المجاهدين إنما تظهر بسير جهادي كامل رسمه السيد الشهيد للحوزات العلمية على مدى عمرها وحتى يأذن الله تعالى لوليه بالفرج.
أود هنا أن أشير إلى حقيقة مأساوية مرة.. وكان الاعتزال لطلب العلم هو مقياس الفضول والشرف، أما السيد الشهيد فقد استطاع بجهاده، وتربيته ثم شهادته أن يغير هذه المقاييس الباطلة التي كانت تحول دون الوصول إلى حوزة رشيدة..
فلسفة الشهادة
في ضوء هذا الظرف السياسي والاجتماعي، وفي ضوء فهم معمق لوضع الأمة ومستوى تحملها، ومدى وعيها، لم تكن حركة السيد الشهيد هادفة إلى إطاحة النظام الحاكم بالفعل، بمقدار ما هي هادفة إلى تعرية هذا النظام، وايقاظ ضمير الأمة الذي مات أو يوشك أن يموت!! أكثر من مرة قال السيد الشهيد:
(إن الأمة تحتاج إلى دمي)
(الأمة لا يوقظها إلا دمي)
(الأمة لا تتحرك إلا إذا أعطيناها دماءنا).
ودم السيد الشهيد لا يمكن أن يكون وحده، إن معه دماء أصحاب الحسين (ع).
في هذه المرحلة، وفي ظل هذه الظروف، فإن الشهادة هي السبيل الوحيد القادر على الانتصار، كما انتصر دم الإمام الحسين على طاغية زمانه يزيد بن معاوية (لعنه الله).

 

 

 

 

 

 

 

 

سرقوحقي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس