بسمه تعالی
الرحمة
إن الرحمة هي صفة من صفات الله سبحانه وتعالى بل يقال إنها أوّل صفات الله تعالى وأوضحها ، قال تعالى : {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فهو الله الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء .
وعموماً ، فإنه وإن كان شديد العقاب إلا إن رحمته سبقت غضبه جلّ جلاله وعلا مكانه ، فلا ينبغي أن يأمن المؤمن من مكر الله سبحانه وتعالى فيوغل بالمعاصي أملاً بالرحمة بل عليه الإسراع بالتوبة فلعله إن لم يسارع يخرج من استحقاق الرحمة الإلهية فلا تبقى له من باقية . وكل ذلك من قبيل صدور الرحمة من الخالق للمخلوقات كافة ولا تشمل الإنسان فقط بل تعم جميع مخلوقاته بلا استثناء .
بيد أن المهم في هذه المقالة هو صدور الرحمة من المخلوق للمخلوق أو قل صدورها وإعمالها بين المخلوقات كافة ، وذلك لعدة أسباب ، منها :
السبب الأول : إن رحمة المخلوق للمخلوق تستنزل الرحمة الإلهية، وكما ورد : ( إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ويصعب استنزالها على من لا يرحم غيره .
السبب الثاني : إن رحمة المخلوقات عبارة عن أرقى معاني الطاعة والعبادة ، فمن كان يؤمن بالله ورسله وكتبه عليه بتلك الطاعة أو العبادة وسيتجنبها الأشقى الذي يصلي ناراً تلظّى. السبب الثالث : إن المخلوقات كما ورد عن بعض أهل المعرفة قد تعتبر تجلياً من تجليات الله سبحانه وتعالى ، فمن أحبّ الله أحبّ كل تجلياته وفيوضاته ، والرحمة إحدى أوضح مصاديق الحب والتودد كما لا يخفى .
السبب الرابع : إعمال صفة الله في خلقه ، كما ورد : ( عبدي أطعني تكن مثلي ) فأهل المعرفة يحاولون جاهدين أن يكونوا مصداقاً لبعض الصفات الإلهية الممكنة وأهمها الرحمة ، فإن فعلت فقد أعملت تلك الصفة وأفشيتها في ربوع خلق الله تعالى .
السبب الخامس : إن الله سبحانه وتعالى جعل الرحمة باباً للهداية وكسب الآخرين له ولدينه وطاعته ، فقد قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وهذا الكلام موجّه لرسول الله صلى الله عليه وآله فكيف بنا نحن الذين نريد هداية المجتمع ؟! فهذه الآية قد حصرت هداية المجتمع بالرحمة لا بما يناقضها من الفظاظة والغلظة .
فلهذه الأسباب وغيرها يجب أن يتحلّى الفرد بالرحمة بشتى الطرق وأن لا يتخلى عنها بتاتاً ، وللرحمة عدة طرق أو آليات إذا تمسّك بها الفرد كان رحيماً ، ومنها :
أولا ً: التحلّي بالأخلاق الرفيعة والكلام الجميل .
ثانياً : التواضع أمام الآخرين واعتبار نفسه أقلّ من الجميع .
ثالثاً : التضحية والدفاع عن المظلومين والمحرومين وما شاكل ذلك ومنه الجهاد دفاعاً عن المستضعفين .
رابعاً : التصدّق على الفقراء والمساكين والمحتاجين.
خامساً : العطف على الناس أجمع ومقربيه بطريق أولى ولا سيّما أبنائه وزوجته ممن قد يعتبرهم المجتمع تحت رعايته .
سادساً : العدل عموماً ، وبالأخص عدل الحكام والسياسيين وما شاكل ذلك .
وسأكتفي بهذا القدر توخياً للاختصار .
إلا إنه يجب أن نلتفت لأمر لا ينبغي إغفاله على الإطلاق ، وهو كون الرحمة مع القدرة على غيرها ، كما قال الشاعر :
ما كان ضرّك لو مننتَ وربما
منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق
بمعنى أنه قادر على الغضب والانتقام إلا إنه يقدّم الرحمة ويكظم غيظه .
ثم إن الرحمة الصادرة من المؤمن أو المسلم لا ينبغي أن تكون للمسلم والمؤمن فحسب فالمقابل إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق وهذا ما علّمنا وأدبّنا عليه إمامنا علي أمير المؤمنين روحي له الفداء .
وإن صدورها من الإنسان لا ينبغي أن تكون الإنسان فحسب بل ما أجمل صدورها ومصاديقها الأخرى وهي الرحمة بالحيوان ذلك المخلوق الضعيف بل حتى الوحوش منها .. فمع الأسف كل الأسف ما نرى من إمعان الظلم بالحيوانات وتركيعها لبني البشر وزجها بعراك في ما بينها أو سلخ جلودها أو ذبحها من دون أكلها أو استعمالها في رياضات عنيفة أو التفرج على عراكها أو غيره من أجل الترفيه والضحك أو حبسها من دون طائل أو عدم مداراتها حتى موتها أو تحميلها أكثر من طاقتها وغير ذلك مما نراه ونسمعه ، فكل ذلك نزعٌ للرحمة ولا بد من معاقبة فاعلها بأي صورة ممكنة لدرء مثل هذه التعديات التي انقرضت بسببها الكثير من الحيوانات .
بل إن التعامل الصحيح والمنطقي مع الجمادات يمكن تسميته بالرحمة فإن الجماد وإن لم يشعر لكنه قد يكون نوعٌ من الرحمة له أو قد يكون رحمة لنفس الفرد الذي يتصرف بالجمادات . فالإنسان أيضاً مطالب برحمة نفسه وأن لا يظلم نفسه ، لكن من خلال الطاعة والإيمان وعدم المعصية والإفراط بها أو تكليف نفسه بما لا يطيق ، فقد قال تعالى : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
ويمكننا أن نقول من جهة إن انغماس الفرد في الدنيا وملذاتها ظلم لنفسه أيضاً ، ومن جهة أخرى فإن إيذاء النفس بالمجاهدات الشديدة والرياضات الروحية المعمقة والعزلة الطويلة وما شاكل ذلك قد يكون نوعاً من أنواع الظلم والأذى للنفس فضلاً عن كونها قد تكون مؤذية للآخرين من متعلقيه ومن يلوذ به .
فالتكبر والتبذير والإسراف والعنف والمعصية وارتكاب الفواحش ونكران وجود الله وغيرها من الأمور لهي أمور مخالفة للرحمة للنفس أولاً وللآخرين ثانياً .. فارتكاب مثل هذه الأمور يؤذي المجتمع وفيها آثار مادية ومعنوية سلبياً ، ألم تسمعوا أن الذنوب تنزل البلاء والوباء والزلازل والبراكين وتجلب حكام الجور والاحتلال والتطبيع فيزداد الظلم والنفاق وتنتشر الموبقات .. فالتفتوا رجاءً .. ولقد أعذر من أنذر .
عبد الله مقتدى الصدر