[frame="7 98"]ثالثا ـ دلالات حديث الطائر المشوي
في كتاب الفرقة الناجيه للسيد محمد الشيرازي الموسوي(سلطان الواعظين)عن زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عائشة حيث قالت :
ما خلق الله خلقاً كان أحبّ إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من عليّ بن أبي طالب .
وقد علّق الحافظ الگنجي بعد هذا الحديث قال : هذا حديث حسن رواه ابن جرير في مناقبه وأخرجه ابن عساكر في ترجمته (كفاية الطالب باب 91 ، ومطالب السؤول، ج1، ص73، ط: أم القرى 1420 هـ) .
1ـ قال السيد امير محمد الكاظمي القزويني (في كتابه عقيدة المسلم ج1ص59 ):
..قوله (ص) في حديث الطائر المشوي الذي أهدي إليه ( اللهم اتني بأحب خلقك إلي و إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي فأكل معه ) ..
.. أن الحديث أثبت أن علياً أحب الناس إلى الله و رسوله (ص) و الأحب إليهما أتقى الناس و أتقاهم هو إمامهم بدليل قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
2ـ قال السيد علي الميلاني (في كتابه حديث الطير...)
.. إنّ حديث الطير يدلّ على إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لانّ القضيّة التي تتعلّق بحديث الطير، هذه القضية قد أسفرت عن كون علي (عليه السلام) أحبّ الناس إلى الله وإلى الرسول...
يقول الترمذي في صحيحه(صحيح الترمذي 5 / 595 باب مناقب علي بن أبي طالب.) عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجيء غير علي ورجوعه من باب رسول الله.
وجاء في كتاب مناقب علي لاحمد بن حنبل(فضائل الامام علي (عليه السلام) لابن حنبل: 42 رقم 68، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي.)
ما نصّه: عن سفينة خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: أهدت امرأة من الانصار إلى رسول الله طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، ورفع صوته، فقال رسول الله: «من هذا ؟» فقال: علي.
لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الاخرين(والقول للسيد الميلاني).
ولكم أن تقولوا: لعلّ الاخرين تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، إنّ معنى «رفع صوته» أنّه عندما كان يدعو كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا معنى الحديث إلى هنا «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته» لكن الحقيقة إنّ لفظ أحمد محرّف، لانّا سنقرأ في بعض الالفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الاُولى فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية كذلك، في المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته فقال رسول الله: من هذا ؟
فمن هنا يظهر معنى «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلاّ فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، وقوله: فقال رسول الله من هذا ؟ فقال: علي، أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال: افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول الله من الطيرين حتّى فنيا.
فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ باد بكلّ وضوح.
أمّا الهيثمي صاحب مجمع الزوائد، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي(مجمع الزوائد 9/125 ـ دار الكتب العربي ـ بيروت ـ 1402 هـ.) :
عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [ يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول الله فرخاً مشويّاً ] فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا ؟ قال: علي، فقلت ـ أي أنس ـ يقول: النبي على حاجة، وفي بعض الالفاظ: النبي مشغول، أي لا مجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان مازال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي على حاجة، فانصرف علي. عاد رسول الله مرّة أُخرى يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «يا أنس من هذا ؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لقد سألت الله ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ»، فقال علي: وأنا يا رسول الله، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، فقال رسول الله: «يا أنس، ما حملك على ما صنعت ؟» قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي، فقال رسول الله: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلاً: رسول الله على حاجة، في المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.
وفي بعض الالفاظ: رفع صوته فسمع رسول الله صوت علي وقال لانس: «إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول الله، أي على أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.
لكن الحديث في مسند أبي يعلى كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبدالله بن مثنّى، حدّثنا عبدالله بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجل مشويّ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام»، فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس: فقلت أنا: اللهمّ اجعله سعد بن عبادة، قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ رسول الله على حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول الله صوته، أي رفع علي صوته [ أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف ]فسمع رسول الله صوته فقال: «أُنظر من هذا ؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلى رسول الله فأخبرته، فقال: «ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول الله: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».
هذا لفظ أبي يعلى.
ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل.
أمّا في الخصائص للنسائي(الخصائص للنسائي: 29 رقم 10 ـ مكتبة المعلا ـ الكويت ـ 1406 هـ.) [ الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء(سير أعلام النبلاء 14/133 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1404 هـ.) وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى للنسائي الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين:
عن أنس بن مالك: إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له.
وفي مسند أبي يعلى بنفس السند، ترون مجيء الشيخين ومجيء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له(مسند أبي يعلى 7/105
رقم 4052 ـ دار المأمون للتراث ـ دمشق ـ 1406 هـ. ) .
لاحظوا الفوارق بين الالفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون باللفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحر المنصف في تحقيقه عن سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي فحصه عن القول الحق من بين الاقوال.
أقول:
سند النسائي كما أكّدت سند صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الاخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى، يحاول أنْ يناقش في هذا السند، ونحن نرحّب بالمناقشة، وأيّ مانع لو كانت المناقشة مناقشة علميّة، على كلّ منصف أن يسلّم، وأيّ مانع لو كانت المناقشة واردة، وحينئذ لرفعنا اليد عن هذا الحديث وتمسّكنا بغيره من الالفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الاحاديث، وأيّ مانع ؟ لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب !!
يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدي، والسُدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، ربّما يناقش فيه بعض، لكنّه من رجال مسلم، من رجال الترمذي، من رجال النسائي، من رجال أبي داود، ومن رجال ابن ماجة.
ويقول أحمد بترجمته: ثقة.
ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة.
حتّى أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق، بل إنّه من مشايخ شعبة.
وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة هكذا يقولون، يقولون شعبة بن الحجّاج لا يروي إلاّ عن ثقة، وممّن يعترف بهذا المعنى أو يدّعي هذا المعنى هو ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه شفاء الاسقام(شفاء الاسقام في زيارة خير الانام: 10) .
فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الاخرون من كبار الرجاليين(تهذيب التهذيب 1 / 313) ، فأيّ مناقشة تبقى في السُدي ليطعن الطاعن عن هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لامير المؤمنين، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين ؟
وهناك قرائن داخل الحديث وقرائن في خارج الحديث لا نحتاج إلى ذكرها كلّها، بل نكتفي بالاشارة إلى بعض القرائن الداخليّة وبعض القرائن الخارجيّة فقط.
في بعض ألفاظ هذا الحديث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الاضافة موجودة في بعض الالفاظ.
وفي بعض الالفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الاوّلين والاخرين».
وربّما يدلّ هذا الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين من الاوّلين والاخرين، أمّا الاخرون فالامر فيهم سهل. أمّا الاوّلون فإنّه يشمل الانبياء أيضاً، يشمل حتّى أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث بهذا اللفظ من أدلّتنا على أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الانبياء إلاّ النبي والرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي ـ أي فتحت الباب فإذا علي ـ فلمّا رأيته حسدته.
وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك ياعلي ؟».
وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي ؟» قال: يا رسول الله قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله، وقال: «يا أنس ما حملك على ردّه ؟» قلت: يا رسول الله سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الانصار.
وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول الله !! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتى أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا اعتذر هذا العذر قال: لست بأوّل رجل أحبّ قومه !!
وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام من رسول الله مفتعل عليه في حديث الطير: «لا يلام الرجل على حبّ قومه» أو «لست بأوّل رجل أحبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين.
لكنْ لو سألتم بأيّ دليل تعتقد ؟
ليس عندي الان دليل، وإنّما أقول: كيف غضب رسول الله ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي ؟ بل يعتذر له رسول الله مرّةً أُخرى، ويبدي له عذراً !! ألم يكن يعلم رسول الله بهذا: لا يلام الرجل على حبّ قومه ؟ فلماذا غضب عليه إذن ؟ بل قاله له رسول الله وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لست بأوّل رجل أحبّ قومه، أبى الله يا أنس إلاّ أنْ يكون ابن أبي طالب».
وهذه قرائن داخليّة في الالفاظ، ولو أردت أن أُعيد عليكم الالفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا المجلس، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها ـ كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث ـ هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل.
مضافاً: إلى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى.
ولماذا احتجّ ؟ وعلى من احتجّ ؟
احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لانْ يستشيروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.
إذن، احتجّ علي على هؤلاء، ومن المحتج ؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل ؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع ؟ فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الاصحاب المنتخبون من قبل عمر لان يعيَّن من بينهم خليفة عمر، واحتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير.
وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبى سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر
بأنّه سمع من رسول الله خلالاً أو خصالاً لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، هذا الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت لكم في ذلك المجلس.
في بعض ألفاظ هذا الحديث: إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير، الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، وحديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في حلية الاولياء لابي نعيم، ومن شاء فليراجع(حلية الاولياء 4 / 356) .
هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى الله وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، تلك القرائن كثيرة لا تحصى، والله يشهد على ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل المجلس بذكر تلك الشواهد.
بل في الاحاديث التي بحثنا عنها، والايات التي درسناها فيما سبق، والتي سنذكرها فيما سيأتي، كفاية لان تكون شواهد لهذا الحديث.
وما معنى الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول ؟ وأيّ علاقة بين الاحبيّة وبين الامامة والولاية ؟ أي إرتباط بين الامرين ؟
أتتصوّرون أنْ تكون الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول، أن يكون الشيء أحب الاشياء إلى الله والرسول، أو يكون شخص الاحب إلى الله وإلى الرسول، أن تكون الاحبيّة اعتباطيّة ليس لها معيار، ليس لها ملاك، ليس لها ضابط، أيمكن هذا ؟ أتتصوّرون هذا ؟ أتحتملون هذا ؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الاشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ الناس إلى نفسه، يُسأل لماذا ؟ ولابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالاحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الانسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحب كلّ شيء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحب فكيف الاحبيّة ؟ أن يكون شيء أحبّ الاشياء إلى الانسان من كلّ الاشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الاشخاص إلى الانسان من كلّ أفراد الانسان وبني آدم، ويكون هذا بلا حساب وبلا سبب من الاسباب ؟ أيمكن هذا ويعقل ؟
نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلاّ لعلّة، إلاّ لحساب، إلاّ لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب، لا يكون عندك جواب معقول.
الله سبحانه وتعالى يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى يكون هذا بلا حساب وهل يعقل ؟
وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الاماميّة في استدلالهم بهذا الحديث، كلّ تلك القضايا أدلة أُخرى وشواهد على أنّ هذا الحديث يدلّ على مقام عظيم لامير المؤمنين، يدلّ على شأن كبير، وإلاّ لما فعلوا، ولما تصرّفوا، ولما ضربوا وكسروا المنبر، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم، كما سنقرأ.
ثمّ إنّ الاحبيّة إلى الله والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً، ولابدّ من سبب، والمفروض أنّ تلك الاحبيّة إلى رسول الله لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لاغراض شخصيّة، لانّ رسول الله أعلى وأجلّ وأسمى من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني، فما هي تلك الضوابط التي أشرنا إليها ؟
نحن لا علم لنا بتلك الضوابط على نحو الدقّة، لا نعلم بها، الامر أدقّ من هذا، أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا، الامر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لانْ يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه، نحن لسنا في ذلك المستوى لانْ نعرف ذلك المعيار، لانْ نعرف ملكات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى نتمكّن من تعيين من هو أحبّ، اللهمّ إلاّ عن طريق تلك الاحاديث الواردة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن طريق الاحاديث المتواترة القطعيّة، عن طريق الاحاديث المتفق عليها بين الطرفين.
فأحبيّة شخص إلى رسول الله لا يمكن أن تكون لميل نفساني ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول الله، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الاخر والاخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس، تلك الضوابط لابدّ وأن تكون هكذا، وإلاّ فليس بنبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، يفعل ويترك وما يفعل وما يترك إلاّ عن وحي من الله سبحانه وتعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)( سورة النجم: 3 ـ 4) .
فإذا كانت الاحبيّة بملاك، بسبب، وبحساب، تلك الاحبيّة تنتهي إلى الاقربيّة المعنويّة، تنتهي إلى الافضليّة، تنتهي إلى وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الاحب إلى رسول الله، أن يكون مقدّماً على غيره في جميع شؤون الحياة.
وإليكم عبارة الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم، وكتابه في شرح صحيح مسلم ومن أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً وشهرة، يقول في معنى محبّة الله تعالى لعبده ـ والمراد من هذه الكلمة في النصوص الاسلاميّة كتاباً وسنّةً ـ
فيشرح قائلاً:
محبّة الله سبحانه وتعالى لعبده تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها، وأمّا غايتها فكشف الحجب عن قلبه، حتّى يراه [ أي يرى الله تعالى ] ببصيرته فيكون [ هذا الشخص المحبوب لله سبحانه وتعالى ] كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره(المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15/151) .
هذه عبارته، وما ألطفها من عبارة.
فهل من شك حينئذ في استلزام الاحبية للامامة ؟ إنّ من كان محبوباً لله تعالى يكون له هذه المنزلة، فكيف من كان أحب الخلق إليه، عبارة النووي كانت في محبّة الله لاحد، أمّا كون هذا الشخص وحده هو الاحبّ من كلّ الخلائق إلى الله سبحانه وتعالى فحدّث ولا حرج، هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا، إلاّ أنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم.
إذن، لا شكّ ولا ريب في استلزام الاحبيّة للامامة والخلافة والولاية.
هذا على ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب ذكرتها لكم.
فتمّ البحث إلى الان عن دلالة حديث الطير على الامامة واستلزام الاحبيّة للافضليّة.[/frame]