![]() |
تفسير سورة البقرة الجزء الاول
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلى على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف كتاب الله نور القلوب سورٌ عطرة معاني جليلة وشرحٌ لطريق الصراط المستقيم وباب التكامل الأخلاقي الذي دعانا له السيد الشهيد الصدر ومن أجل تحقيق هذا الهدف علينا فهم المعنى العام لكل اية لإستخلاصها في حياتنا اليومية سبق وطرحت لكم تفسير سورة الانعام واليوم أطرح لكم تفسير سورة البقرة المباركة كاملة التفسير من كتاب (تقريب القرأن إلى الأذهان) لاية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي * التفسير من جهد خاص وحصري لذى اتمنى عدم النقل بدون ذكر المصدر منتديات جامع الائمة نبدء بسم الله الرحمن الرحيم الأية 1 : ((الم)) أي من جنس هذه الحروف المقطعة: "ا"، "ل"، "م". الأية 2 : ((ذَلِكَ الْكِتَابُ)) والإشارة بالبعيد، للإشارة إلى كون القرآن سامي عالي المنزلة، ((لاَ رَيْبَ فِيهِ)) أي ليس محلاً للريب وإن ارتاب فيه الكفار، كما أن النهار لا ريب فيه وإن ارتاب فيه السوفسطائيون، و"لا ريب فيه" صفة للكتاب. ((هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)) صفة بعد صفة، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى وخاف من التردي، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن، وإن كان القرآن صالحاً لأن يهدي الكل. الأية 3: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)) صفة للمتقين، والمراد بالإيمان: الاعتقاد به، والغيب هو الذي غاب عن الحواس الظاهرة، أي ما وراء الطبيعة، فالروح غيب، وأحوال القبر غيب، والله سبحانه غيب، وهكذا. ((وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)) إقامة الصلاة والإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها، ولذا تدل على معنى أرفع من معنى "صل". ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) والرزق أعم من المأكول والملبوس والمسكون والعلم والصحة وغيرها. وإنفاق كل شيء بحسبه. الاية 4: ((والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) من الوحي والقرآن، ((وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ)) فإن من شرائط الإيمان الإيمان بكل الأنبياء (لا نفرق بين أحد من رسله)، ((وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)) واليقين بالآخرة هو الاعتقاد بها، والعمل بمقتضاها، وبعض هذه الأمور - وإن كانت داخلة في "الإيمان بالغيب" لكنها ذكرت لزيادة الاهتمام بها. وذكر الخاص بعد العام. الأية 5: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)) أي على بصيرة، وهذه البصيرة أتت إليهم من ناحية الله سبحانه، ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) الناجون، فهم في الدنيا على بصيرة، وفي الآخرة في زمرة الناجين. ثم أن القرآن لما ذكر المؤمنين ثناهم بذكر الكافرين، ثم ثلثهم بذكر المنافقين، فإن كل دعوة لابد وأن ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام: "مؤمن بها" و"كافر بها" ومذبذب بين ذلك يجامل الطرفين. الاية 6: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ)) والكفر هو الستر، كأن الكافر يستر الحقيقة، ولا يبديها ((سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) والمراد بـ"الذين كفروا" - هنا - هم المعاندون منهم، لأنهم المصداق الاجلي <الأصلي> للكافر، وإلا فالذين آمنوا بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من الناس كانوا كفاراً، ثم آمنوا، ومن المعلوم، أن المعاند يتساوى في حقه الإنذار وعدمه، نعم، يجب إنذاره إتماماً للحجة. وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات. الأية 7 : ((خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ)) طبعها بالكفر، أي جعلها بحيث يصعب إيمانها، لأنها اعتادت الكفر وعدم الاستماع إلى الحق، وإنما ختم الله لأنها لم تقبل الهداية، كمن يطرد ولده عن داره بعد ما أرشده مرات، فلم يفد فيه النصح، كما قال تعالي: (ختم الله عليها بكفرهم) أي بسبب كفرهم، وإنما فسرنا "الختم" بـ"يصعب" لبداهة أن الإنسان - ولو كان معانداً - لا يخرج عن قابلية القبول والاهتداء ((وَعَلَى سَمْعِهِمْ)) بمعنى أنهم لا يستفيدون من السمع والبصر كالأصم، لأن في سمعهم خلل، ((وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) تشبيه للغشاوة المعنوية بالغشاوة الظاهرية، فكما أن من على بصره غشاوة لا يرى المحسوسات، كذلك من يعاند، يكون على بصره مثل الغشاوة، وهو تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل، كما تقول لمن لا ينتفع بالعلم: "هو جدار." ((وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ)) في الدنيا والآخرة، فإن من ينحرف عن قوانين الله تعالى يكون له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى. الأية 8: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن)) المنافقون، وهم القسم الثالث، فهو ((يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)) قولا باللفظ فقط، ((وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)) حقيقة، فلا يعملون أعمال المؤمنين، وإن كانت قلوبهم أيضاً متيقنة بحقائق اللإيمان. الأية 9: ((يُخَادِعُونَ اللّهَ)) أي يفعلون مع الله تعالى فعل المخادع - الذي يريد الخديعة، فيظهر ما لا يريده، ويريد ما لا يظهره. ((وَالَّذِينَ آمَنُوا)) فيرونهم خلاف ما يضمرونه، لكن عملهم هذا ليس خدعة حقيقة لله وللمؤمنين، فإنهما يعلمان نواياهم، فلا ينخدعون بهم، بل ((وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم)) إذ يجري عليهم أحكام المؤمنين ظاهراً، ولا يشتركون معهم في أسرارهم، كما لا يشتركون معهم آخرتهم، فهم مخدوعون من حيث ظنوا أنهم مخادعين ((وَمَا يَشْعُرُونَ)) بأنهم خدعوا أنفسهم، لا أنهم خدعوا الله والمؤمنين، وإذ لو شعروا بأنهم يخدعون أنفسهم لم يقدموا على ما ظنوه خدعة لغيرهم، والحال أنها خدعة لهم حقيقة وواقعاً. الأية 10 : ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ)) فإن قلب المنافق ملتو، ونفسه معوجة، لا تريد الاستقامة ((فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً)) إذ نزول الآيات ونصب الرسول أوجب أن يزيدوا في التوائهم، لئلا يسلط النور عليهم فيعرفوا ((وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي مؤلم ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) أي بسبب كذبهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم، فإنه نوع من الكذب، وإن كان كلامهم مطابقاً للواقع، لكنهم حيث أخبروا عن إيمانهم ولم يكونوا مؤمنين كان ذلك كذباً. الأية 11 : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)) أي المنافقين ((لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ)) فإن النفاق يلازم الإفساد، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة، ويؤلب عليها، وهو إفساد حينما تريد الإصلاح والتقدم ((قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) فإنهم يظنون أن الدعوة إفساد، وأنهم بوقوفهم ضدها يصلحون في الأرض. الأية 12 : ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)) لأنهم بوقوفهم النفاقي ضد الإسلام يكونون مفسدين إفساداً بالغاً أكثر من إفساد الكفار، ولذا قال تعالى في آية أخرى (هم العدو) على نحو الحصر ((وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) بذلك، بل (يحسبون أنهم يحسنون صنعا). الأية 13: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)) أي المنافقين، والقائل هم جماعة من المؤمنين الذين لا يخافون ((آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ)) إيماناً لا يشوبه نفاق ((قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء)) يعنون بالسفهاء المؤمنين الحقيقيين ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء)) وأية سفاهة أعظم من كون الإنسان حائداً عن طريق الحق مع كونه متصفا بصفة النفاق الرذيلة، ((وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ)) أنهم هم السفهاء، لأنهم يظنون أن طريقتهم النفاقية أصلح الطرق. يرجى من الأعضاء الكرام عدم الرد حتى يتم اكمال وضع التفسير بشكل كامل |
الأية 14 :
((وَإِذَا لَقُواْ)) من "لقى" أي التقى المنافقون بـ: ((الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ)) لهم ((آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) أي أشباههم من المنافقين ((قَالُواْ)) لهم ((إِنَّا مَعَكْمْ)) يريدون بذلك إرضاء الجانبين ((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ)) بالمؤمنين في إظهار الإيمان لهم، وهذا هو دليل نفاقهم، وإلا لو كان الأمر بالعكس - بأن أظهروا الكفر تقية - لم يزيدوا على إظهاره. الأية 15 : ((اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ)) أي يفعل لهم فعل المستهزئ، فيجري عليهم في الدنيا أحكام الإيمان، وفي آخرتهم يجازيهم بجزاء الكفار، وفي بعض الأحاديث أنه يستهزئ بهم في الآخرة في النار ((وَيَمُدُّهُمْ)) إمداد الله سبحانه بعدم الضرب على أيديهم كما يقال: الملك يمد قطاع الطريق حيث لا يستأصلهم ((فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)) الطغيان: تجاوز الحد - العمه والتحير - فإن المنافق كالشخص المتحير، وإنما يمدهم الله سبحانه لأن الدنيا دار اختبار وامتحان فلا جبر ولا إلجاء. الأية 16 : ((أُوْلَـئِكَ)) المنافقون ((الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى)) فكأنهم أعطوا الهداية، وأخذوا مكانها الضلالة، أو كأنهم أعطوا أنفسهم بدل الضلالة، بينما كان الذي ينبغي أن يعطوا أنفسهم بدل الهداية، كما قال الشاعر: أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا تشتري بها لهبا في الحشر تشتعل ((فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ)) المعنوية، بل خسروا رأس المال الذي هو أنفسهم ((وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ)) في هذه التجارة والاشتراء. الأية 17: ((مَثَلُهُمْ)) أي مثل هؤلاء المنافقين ((كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً)) استوقد بمعنى أوقد، أو بمعنى طلب الوقود الذي هو الحطب ونحوه، والمعنى أشعل ناراً ليستضيء ويدفأ بها، ((فَلَمَّا أَضَاءتْ)) النار ((مَا حَوْلَهُ)) وانتفع بها ((ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ)) بأن أرسل ريحاً فأطفأها، ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ)) ما حولهم، وإنما كان هذا مثلا لهم، لأن المنافق بإيمانه الظاهري يبعد <يعد> لنفسه سبيل الحياة، وينور طريقه - فإن الإيمان نور وسبب لهداية الإنسان إلى الحق والعدل والخير - فإذا قبض الله أرواحهم تركهم كسائر الكفار في نار وعذاب حين يقبض الله أرواح المؤمنين إلى نور أوسع ورحمة أكبر... فهؤلاء المنافقون. الأية 18: ((صُمٌّ)) جمع أصم، لأنهم لا ينتفعون بالحق، فهم والأصم سواء ((بُكْمٌ)) جمع أبكم، وهو الأخرس، لأنهم لا يقولون الحق فهم والأبكم سواء ((عُمْيٌ)) جمع أعمى، لأنهم لا يبصرون الحق، فهم والأعمى سواء ((فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ)) عن غيهم وضلالهم، و"ف" للإشارة إلى أنهم حيث صموا وأبكموا وعموا لم يرج فيهم الخير، فإنه (لا يسمع الصم الدعاء). الأية 19 : ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء)) مثال آخر لحال المنافقين، والفرق بين المثالين أن المثال الأول كان مثالاً للمنافق نفسه، وهذا المثال مثال الحق الذي يغمر المنافق، ولكنه لا ينتفع به، والمصيب هو المطر، فالحق الذي يغمر هؤلاء كمطرٍ ينزل من السماء ((فِيهِ ظُلُمَاتٌ)) ظلمة السحاب وظلمة المطر - لأنه يحول بين الضياء وبين الأرض - وظلمة سحاب فوق سحاب ((وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)) من الأمور المخوفة، ((يَجْعَلُونَ)) أي من ابتلي بهذا الصيب ((أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ)) خشية ((الصَّوَاعِقِ)) فإن الصاعقة إذا نزلت قرعت الأسماع صوتها الشديد، ((حَذَرَ الْمَوْتِ))، فإن الصوت الشديد توجب انخلاع القلب فيموت الشخص، لكن هؤلاء المنافقين الذين هم كفار في الباطن لا يظنوا أنهم يتمكنون الفرار من بأس الله تعالى ((واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)) إحاطة علم وقدرة. الأية 20 : ((يَكَادُ الْبَرْقُ)) اللامع في السحاب ((يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)) أي أبصار من ابتلي بالصيب، وخطف البصر كناية عن عماه، ((كُلَّمَا أَضَاء لَهُم)) بأن أبرق ورأوا طريقهم ((مَّشَوْاْ فِيهِ)) أي في البرق، بمعنى استفادتهم من نوره فيمشون، ((وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ)) بأن لم يبرق ((قَامُواْ)) في أماكنهم، أي وقفوا ((وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)) بسبب صاعقة قوية فتصمهم ((وَأَبْصَارِهِمْ)) بسبب برق قوي، إذ النور إذا قوي أوجب ذهاب البصر، ((إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فلا يمنعه أن يحتمي الإنسان بإصبعه أو بغمض بصره عن أن يذهب بسمعه أو ببصره. وهذا توضيح المثال بتطبيقه على المورد أن "الصيب" هو الحق النازل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و"البرق" هو تقدم المسلمين وما يسبب لهم إنارة الطريق، و"الرعد" والصاعقة إيعادات الرسل والأهوال المكتنفة بالدعوة والمنافقون، كمن ابتلي بهذا الصيب في الصحراء، فالحق كالمطر فيه الحياة، لكن فيه ظلمات غلبة الكفار وذهاب الأنفس والأموال والثمرات، وفيه برق ينير طريق الحياة السعيدة، وفيه رعد وصاعقة مواعيد الرسول وفضحه المنافقين، وهؤلاء المنافقين يكاد سرعة تقدم المسلمين تعميهم، فإن العين إذا نظرت إلى ما لا يسرها اضطربت ودمعت - كلما أضاء لهم بأن غلبوا في الحرب وحصلوا على الغنائم واتبعوا الرسول، وإذا أظلم عليهم - بأن غلب عليهم الكفار - وقفوا وقاموا في مكانهم، لا يعلمون ولا يتقدمون، وهم يخافون من الفضيحة إن نزلت آية في شأن المنافقين، فيجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعونها، أو يتغافلون عنها كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم، فإن الإنسان المجرم إذا سمع ما يمس إجرامه ظهرت الصفرة وآثار الانهزام على وجهه، ولكن الله قادر على إماتتهم، كما هو قادر على فضحهم والذهاب بسمعهم وبصرهم، فليسوا هم في راحة من نفاقهم - كما زعموا - بل هم في أشد ابتلاء ومحنة. الأية 21: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ)) خلق ((الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) وكان السبب في الخلق ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي خلقكم للتقوى والعبادة، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). |
الأية 22 :
((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً)) كالفراش الذي يكون راحة للبدن وزينة وجمالاً، ((وَالسَّمَاء بِنَاء)) أي مبنيا، وهذا يلائم كون السماء طبقة تحطم القذائف إلى الأرض، فإن البناء ليس المراد منه أن يكون المبني من جسم كثيف، ((وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء)) والمراد بالسماء هنا جهة العلو أو المراد من تلك الناحية ((فَأَخْرَجَ بِهِ)) أي بسبب الماء ((مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ)) فإذا كان الخلق وسائر النعم من الله سبحانه ((فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً)) شركاء من الأصنام أو غيرها ((وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) أنها باطلة، وأنه ليس لله شريك. الأية 23 : ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)) محمد بن عبد الله، وتزعمون أنه ليس من الله سبحانه ((فَأْتُواْ بِسُورَةٍ)) واحدة ((مِّن مِّثْلِهِ)) أي من مثل هذا المنزل، ولو كان قُصر سورة نحو (قل هو الله أحد) أو (إنا أعطيناك)، ((وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم)) الذين يشهدون معكم أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بنبي ((مِّن دُونِ اللّهِ)) أي كائن ما كان غير الله سبحانه، كما يقول ما دون الله مخلوق ((إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) في ريبكم وزعمكم أن محمداً ليس بنبي وأن القرآن ليس من عند الله تعالى، إذ لو لم يكن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً لكان إنساناً عادياً فيمكن الإتيان بمثل كلامه. الاية 24 : ((فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ)) ولم تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن ((وَلَن تَفْعَلُواْ))، هذا إخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، إذ القرآن معجز، فلا يمكن الإتيان بمثله، ((فَاتَّقُواْ)) عاقبة تكذيبكم لرسول الله ولكتاب الله التي هي ((النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا)) أي حطبها وما يسبب إيقادها ((النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)) جمع حجر ولعل المراد بها أصنامهم، كما قال تعالى: (أنتم وما تعبدون حصب جهنم)، وتخصيص الحجارة بالذكر للتهويل، إذ الحجارة لا تنفى، فتكون النار دائمة ((أُعِدَّتْ)) هذه النار ((لِلْكَافِرِينَ)). هذه عاقبة من يكذب. الأية 25: ((وَبَشِّرِ)) يا رسول الله ((الَّذِين آمَنُواْ)) بقلوبهم وألسنتهم ((وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ)) بجوارحهم ((أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) الجنة باعتبار كونها بستانا ذات أشجار ونخيل، تكون أرضها من تحتها، فالأنهار الجارية من تحت الجنة على أرضها. ((كُلَّمَا رُزِقُواْ)) أي رزق المؤمنين ((مِنْهَا)) أي من الجنات ((مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً)) بأن أتى لهم بفاكهة وثمرة ((قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)) فإنهم يألفون تلك الثمار لما رأوا منها في الدنيا، وليسوا كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي من ضريع ولا شرابهم الذي من حميم، ((وَأُتُواْ بِهِ)) أي بذلك الرزق ((مُتَشَابِهاً)) يشبه بعضه بعضاً في الجودة والجدة - لا كثمار الدنيا ((وَلَهُمْ فِيهَا)) أي في الجنات ((أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ)) من القذارات الخلقية كالأوساخ والدماء والقذارات الخلقية كالسب والشتم والحسد ونحوها، ((وَهُمْ فِيهَا)) أي في تلك الجنات ((خَالِدُونَ)) أبداً لا يموتون ولا يتحولون عنها. الأية 26 : وحيث قسم الله الناس إلى أقسام ثلاثة: مؤمن وكافر ومنافق، ومثل للمنافق، ثم أمر الناس عامة بالعبادة، ودعاهم إلى حضيرة الإيمان، وذكر فوائده، واحتج على من أنكر الرسالة، أجاب عن سؤال سأله الكافر، ومن إليهم تعنتاً، وهو أن الله لماذا يضرب المثل كما مثل المنافق هنا، ومثل في سورة أخرى بالعنكبوت ونحوها؟ فإن المثال أوقع في النفوس وموجب لتقريب المطلب إلى الأذهان. ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا)) فإن الحياء من الأشياء القبيحة أو نحوها، وليس في تمثيل الله الكبير بالأشياء الصغيرة الحقيرة في النظر حياء - أي مثل كان، وهذا معنى قوله: "ما" أي شيئاً من الأشياء، ((بَعُوضَةً)) وهي البقة ((فَمَا فَوْقَهَا)) ولعل ذكر البعوضة هنا لأنها أصغر حيوان متعارف يراه كل أحد ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ)) أي المثل ((الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ)) وأتى به لغرض التوضيح والتبيين، ((وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ)) معترضين ((مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً))، و"مثلاً" تمييز في معنى "بهذا المثل" ولماذا يأتي الله بهذا المثل غير المناسب لجلال الله فـ: ((يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)) ويوجب انقسام الناس، ومن المحتمل أن يكون "يضل" جواب عن اعتراضهم، أي أن المقصود من المثل الإضلال والهداية، لكنه ينافي السياق، فإن المقصود بالمثل ليس كذلك وإنما التوضيح والتقريب، ((وَمَا يُضِلُّ بِهِ)) أي بالمثل ((إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)) الذين فسقوا أي خرجوا عن طاعة ربهم ومقتضى عقولهم، ثم بين الفاسقين بأبرز سماتهم بقوله: الأية 27: ((الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ)) الميثاق ما وقع التوثيق به، وميثاق الله هو ما أخذ عليهم في الكتب السالفة من الإيمان، أو هو ما أودع فيهم من الفطرة بعرفان الحق، ((وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ)) من صلة الأرحام، أو صلة الرسول والمؤمنين، ((وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)) بالكفر والنفاق وإتيان المحرمات، ((أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) الذين خسروا أعمارهم، فذهبت دنياهم ضنكاً وآخرتهم عذاباً وناراً. الأية 28: ثم عاد سبحانه إلى حال الكافر، ووجه الخطاب إليه مستدلاً على بطلان كفره بقوله: ((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)) لا روح فيكم، فإن أصل الإنسان التراب، ثم يكون نباتاً ثم يكون حيواناً وما أشبه، فيأكله الإنسان، فيتولد المني، ثم يصير إنساناً، ثم يموت، ويرجع تراباً، ثم يعاد يوم القيامة إنساناً ((فَأَحْيَاكُمْ)) نباتاً أو حيواناً أو إنساناً ((ثُمَّ يُمِيتُكُمْ)) وقت موتكم ((ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)) يوم القيامة ((ثُمَّ)) بعد الحياة الثانية ((إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) لتساقون للمحاكمة الكبرى، وكون الرجوع إليه - مع أن الإنسان في جميع الأحوال بدءاً وختاماً تحت سلطة الله وقدرته وعلمه - باعتبار محاسبته تعالى للإنسان. |
الأية 29:
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم)) لمنفعتكم ((مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)) فمن خلقها غيره، وكون الخلق للإنسان لا يدل على تحليل كل شيء، بل كل شيء بحسبه، فالأسماك المحرمة والحيوانات المفترسة لتمتع السمع والبصر لا للأكل ونحوه وهكذا ((ثُمَّ اسْتَوَى)) أي توجه بالخلق والأمر ((إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)) مدارات للنجوم السيارة، فإن السماء في اللغة بمعنى المدار - هذا إذا قلنا بالنظر الفعلي حول السماوات، ويؤيده حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) كما في "الهيئة والإسلام"، ((وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) فلا يغيب عنه شيء، فمن كفر كان الله مطلعاً عليه لا يفوته ذلك، ولا يخفى أن خلق الأرض كان أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحو الأرض، كما قال: (والأرض بعد ذلك دحاها). الأية 30: وحيث ذكر الله قصة خلق السماء والأرض وثم البناء، توجه الحديث إلى من استخلف فيها، ((وَ)) اذكر ((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ)) الذين هم مخلوقون في الملاء الأعلى لا يرون بالعين إلا ما شاء الله ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)) يخلفني في الأمر والنهي والإرشاد، وهذا الحوار إنما كان لأجل إظهار كوامن وبيان حقائق، ((قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا)) أي في الأرض ((مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)) وهذا استفهام حقيقي، يريدون بذلك استيضاح السبب، ولعلهم إنما علموا بذلك لما كانوا يدرون من كدرة الأرض وثقلها الموجبة للفساد والتكدر، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقاً، ((وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ)) ففينا الكفاية، وليس هذا تزكية، بل كقول العبد المطيع لمولاه: "إني أقوم بخدمتك، فلماذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب؟" ومعنى التسبيح: التنزيه، وكان المراد من التسبيح بحمده التنزيه المقترن بالحمد مقابل التنزيه غير المقترن به، كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص، لكن التنزيه فيها لا يقترن بالحمد، إذ ليس ذلك باختيارها بخلافة تعالى المقترن أفعاله وأعماله بالإرادة، ((وَنُقَدِّسُ لَكَ)) أي إن تقديسنا وتنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء وسمعة، ((قَالَ)) الله تعالى في جواب الملائكة السائلين عن السبب ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) فإن في استخلاف البشر مصالح أهم من الفساد الواقع منهم، كما أن استخلافهم أهم من استخلافكم، فإن منهم من الأخيار والصالحين من لا يلحقه الملك القرب، بالإضافة إلى أنه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعاً جديداً. الأية 31: وإذا أراد الله تعالى إعلام الملائكة ببعض مزايا البشر وإنه من جنس أرفع منهم علم آدم (عليه السلام) علوماً يتمكن هو من فهمها وهضمها، بينما لا يقدر الملائكة على ذلك، ثم قال تعالى للملائكة هل تتحملون مثل ذلك؟ فأبدوا عجزهم، وإذ رأوا من آدم التحمل والقدرة، واعترفوا بالتفوق، وأنه أحق بالخلافة، وتوضيح ذلك بمثال أنه إذا كان لإنسان خادم لا يقدر - فطرة - على بناء دار جملية، ثم أراد استخدام المهندس، فقال الخادم: "لماذا تستخدم غيري وأنا حاضر؟" يقول له السيد: "إني أعلم ما لا تعلم،" ثم يستخدم المهندس، ويبين له ما يريده من الدار، فيقدر المهندس من بنائها، بينما لا يقدر الخادم على النزول عند رغبة السيد، وهناك يعترف العجز وأن السيد كان عارفاً حيث تركه إلى غيره. ((وَعَلَّمَ)) الله تعالى ((آدَمَ)) (عليه السلام) ((الأَسْمَاء كُلَّهَا)) أسماء الأشياء وعلائمها، وذلك يستلزم تعليم المسميات والمعلومات، فإذا علّمت أحداً اسم زيد وعمرو وبكر، كان اللازم تعريفهم له أيضاً، ولذا قال ((ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)) بإتيان ضمير "هم" تغليباً للعقلاء على غيرهم، والعرض على الملائكة ((فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) صدقاً خبرياً يطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في الاستخلاف، ولعل تعليم آدم كان بالإلهام وخلق العلم فيه مما هو قابل له دون الملائكة، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم والإلهام، فلا يقال لماذا لم يعلم الله تعالى الملائكة. الأية 32: ((قَالُواْ سُبْحَانَكَ)) أنت منزه عن القبيح والعبث ((لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا)) فليس لنا هذا العلم الذي لآدم مما هو قابل له ولسنا قابلين له، ((إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) والحكيم هو الذي يفعل الأشياء عن حكمة، بمعنى وضع الأشياء في موضعها اللائقة بها. الأية33: ((قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ)) أي بأسماء ما عرضهم على الملائكة، ((فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ))، وعرفت الملائكة كون قابلية آدم فوق قابليتهم ((قَالَ)) الله تعالى لهم ((أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)): ما غاب عن إدراككم ((وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ)) أي تظهرون، ((وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)) من حسد بعضكم - وهو الشيطان - لآدم (عليه السلام)؟ ثم إن مقتضى اللطف العام والرحمة الواسعة أن يخلق الله تعالى أنواع المخلوقات الممكنة، التي لا يمنع عن خلقها مانع، ولذا خلق الملائكة دون البشر، وخلق بعض - كل من الصنفين - أرفع من البعض الآخر، فلا مجال للتساؤل: فلماذا لم يجعل الله تعالى هذه القابلية البشرية في الملائكة وثم خلق آدم (عليه السلام) وانتهى كل شيء؟ الاية 34 : ((وَ)) واذكر ((إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ)) إما بأن يكون هو قبلتهم، ويكون السجود لله سبحانه، وإما بأن يكون السجود لآدم، ولا دليل عقلي على أنه لا يجوز السجود لغير الله تعالى، نعم ورد الشرع بذلك بالنسبة إلى المسلمين، ((فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ)) هو الشيطان ((أَبَى وَاسْتَكْبَرَ)) أي امتنع وأنف ((وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) التفات: كما نقول نحن: "كان أبو جهل كافراً" وليس حكاية عطفاً على "أبى" حتى يستلزم كونه كافراً من قبل ذلك. الأية 35 : ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ)) حواء (عليها السلام)، قال لهما ذلك بعد ما خلق حواء - أيضاً - كخلق آدم من غير أب وأم ((الْجَنَّةَ))، الجنة هو البستان، وقد كانت لله تعالى جنة أسكنها آدم وحواء ((وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً)) أكلاً واسعاً بلا زحمةٍ ولا تكلف ((حَيْثُ شِئْتُمَا)) من أطراف الجنة، ((وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)) فقد نهوا عن شجرة واحدة اختباراً وامتحاناً، وكانت الشجرة على قَوْلٍ جمع "الحنطة"، وقد كان نهياً إرشادياً كنهي الطبيب مريضه أن لا يأكل ما يضره، وقد كانت فائدة عدم أكلهما لها أنهما يبقيان في الجنة، كما قال سبحانه (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) ((فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ)) فإن الإنسان إذا حرم نفسه من الخير كان ظالماً لها، إذِ الظلم بمعنى وضع في غير موضعه، كما أن العدل معناه وضع الشيء موضعه. |
سورة البقرة 36 ((فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)) أي حمل الشيطان آدم وحواء على الزلة عن الجنة بسبب أنه حملهما على الأكل من الشجرة، ((فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)) من النعيم، ((وَقُلْنَا اهْبِطُواْ))، الخطاب لآدم وحواء والشيطان، والهبوط إما حقيقي - إن كان من محلٍ أعلى إلى أسفل - أو رتبي ((بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) فإن الشيطان عدوهما، وهما عدوان له، ((وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ)) محل القرار ((وَمَتَاعٌ)) أي استمتاع ((إِلَى حِينٍ)) إلى حين انقضاء الدنيا أو موت كل أحد، وإذِ ارتكب آدم خلاف الأولى - بأكل الشجرة، وأهبطه الله تعالى من الجنة تداركته الرحمة. سورة البقرة 37 ((فَتَلَقَّى)) أي أخذ ((آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)) تُسببُ التوبة والرجوع عن الزلة، وكان ذلك بتعليم الله تعالى له أن يجري تلك الكلمات على لسانه، فأجراها ((فَتَابَ)) الله ((عَلَيْهِ)) أي على آدم ((إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ)) أي كثير قبولٍ للتوبة ((الرَّحِيمُ)) بعباده. سورة البقرة 38 ((قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً)) إنما كرر الأمر بالهبوط توطئةً لموضوعٍ آخرٍ وهو الهداية بعد ذكر المقر والمتاع، كما يقال: "قلت له: اذهب تربح. قلت له: اذهب تسلم." ((فَإِمَّا)) أصله "إن" الشرطية، و"ما" الزائدة دخلت عليها لتصحيح نون التأكيد، يعني فإن ((يَأْتِيَنَّكُم)) أيها البشر الذي في صلب آدم ((مِّنِّي هُدًى)) يهديكم إلى الحق ((فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) في الدنيا ولا في الآخرة ((وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))، إذِ الخوف الكامل إنما يكون من أمرٍ مكروه ولا يُعوض، وكذلك الحزن ومصائب المؤمنين تعوض، فلا خوف كامل منها، والفرق بين الخوف والحزن أن الأول لأمر مترقب، والثاني لأمر حادث -غالباً - ولا مانع من الخطاب إلى المعدوم إذا كان المقصود منه الوصول إليه بعد وجوده، هذا مع الغض عن عالم الذر، كاللا مانع من الجمع بين "إن" و"نون التوكيد" إذا المعنى إن أتاكم إتياناً قطعياً مقابل الإتيان المظنون. سورة البقرة 39 ((وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا)) فلم يؤمنوا بعد أن تمت عليهم الحجة، ولعل هذا سر قوله: "كذبوا" بعد "كفروا"، إذِ الكفر لا يلازم التكذيب إذا كان عن القصور ((أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) أبداً، ولا يخفى أن المقصر المعاند خالداً أبداً، أما غيره فيمتحن هناك. سورة البقرة 40 ولما أتم القرآن الكريم قصة آدم واستخلافه في الأرض وجّه الكلام إلى بني إسرائيل الذين هم النموذج للجنس البشري، وقد أتتهم الأنبياء هدىً، وأنعم عليهم الله تعالى، فكفروا بالنعم، وقتلوا الأنبياء. ليكون فذلكة لقصة آدم ودرساً لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)) هم اليهود، وإسرائيل اسم يعقوب النبي (عليه السلام)، نُسبوا إلى أبيهم الأعلى كما نُسب البشر إلى أبيهم الأعلى في قوله: (يا بني آدم). ((اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)) وحيث لم يذكر المتعلق أفاد العموم، فيشمل كل نعمة مادية أو معنوية، ((وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي))، وحيث لم يذكر المتعلق أفاد كل عهدٍ عهده، سواء كان ذلك وقت أخذ موسى (عليه السلام) عنهم العهد بالإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم كان وقت أخذ الله عنهم العهد في عالم الذر، ثم أودع فيهم الفطرة دليلاً عليه، ((أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)) بإعطائكم الدنيا والآخرة، فإن الله سبحانه ضمن لمن وفّى بعهده أن يعمر دنياه وآخرته، ((وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)) الرهبة هي الخوف، يعني يجب أن يكون الخوف من الله سبحانه لا من الناس. سورة البقرة 41 ((وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ)) من القرآن ((مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ)) من التوراة، فإن التوراة الأصلية كانت مصدقة - حتى في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - إلا ما نسخ منها، والنسخ ليس إبطالاً لها، كما أن نسخ بعض أحكام في القرآن - على القول به - ليس إبطالاً له، ((وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)) أي أول من يكفر بما أَنزلتُ، وإنما كانوا أول كافر لأنهم - بسبب عملهم - كانوا مرجعاً للجهّال، فيكون كفر الجهّال في المرتبة الثانية. ((وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً)) أي بمقابل آياتي، بأن تعطوا الآيات - بمعنى عدم الإيمان بها - في مقابل ثمن قليل، وهو رئاسة الدنيا، وكونها قليلاً واضح لانقطاعها. ((وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)) فالتقوى يجب أن تكون منه تعالى، إلا أن تكون الاتقّاء من غيره، لأن الله بيده النفع والضر دون غيره، كما قال تعالى: (قل كل من عند الله). سورة البقرة 42 ((وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)) البس هو التعمية، أي لا تخلطوا الحق بالباطل، فتأخذوا ببعض التوراة الذي هو في نفعكم، وتتركوا بعضها الذي يضركم، وهو بعض الأحكام التي تركوها، ومنها التبشير بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ((وَ)) لا ((تَكْتُمُواْ الْحَقَّ)) الذي هو أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الأحكام الأُخَرْ كما قال سبحانه (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين)، ((وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) بصنعكم وأنه تلبيس المحق بالباطل وكتمان الحق. سورة البقرة 43 ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)) كما يأمر الإسلام ((وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)) الذين هم المسلمون. سورة البقرة 44 ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ))؟ استفهام إنكاري، أي لم تأمرون الناس بالأعمال الخيرية ((وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)) فلا تعلمون بها، والنسيان كفاية عن عدم العمل لشبهٍ به في النتيجة كما قال سبحانه (نسوا الله فنسيهم)، فقد كان اليهود يخالفون أحكام التوراة، ويرتشون ويفسدون ويكذبون، ((وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)) جملة حالية، أي والحال أنتم تقرأون كتاب الله، فاللازم أن تكونوا أول العاملين به، ((أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) أي ألا تعلمون أن ما تأتون به قبيح؟ سورة البقرة 45 ((وَاسْتَعِينُواْ)) في رجوعكم عن دينكم وإلغائكم لرؤسائكم - بما يجر ذلك عليكم من سلب بعضكم دنياكم ((بِالصَّبْرِ)) فإنكم إذا صبرتم على ما تكرهون من اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد ذلك عليكم بخير مما أنتم فيه، ((وَالصَّلاَةِ)) فإن الصلاة توجب تهدئة النفس واطمئنان الخاطر (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ((وَإِنَّهَا)) أي الاستعانة بالصبر والصلاة ((لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)) فإن الصبر ليس أمراً هيناً، والصلاة الكاملة ليست عملاً سهلاً، إنما قيدنا الصلاة بالكاملة، لأنها هي التي يستعان بها، أو أن المراد الصلوات اليومية، وهي صعبة جداً إلا على الذين يخشون الله سبحانه. |
سورة البقرة 46 ثم فسر الخاشعين بأنهم ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ))، الظن بمعنى اليقين وإما بمعنى الرجحان، ولعل السر في هذا التعبير نون اليقين، للإشارة إلى أن أدنى مراتب الرجحان يوجب الخشوع، فإن من يظن أنه يلاقي الملك لعبثه <لبعثه> ذلك على التهيئة، فكيف بمن يظن أنه يلاقي مالك الملوك؟ وملاقات الله كناية عن الحضور للمحاسبة، وإلا فالله سبحانه ليس أدنى إلى الناس في القيامة منه إليهم في الدنيا، ((وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) والرجوع إليه معنوي كما تقدم. سورة البقرة 47 ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)) تكرار للتركيز والإلفات، فإن الإنسان ربما كان غافلاً حين التذكير الأول، فيذكر ثانياً وثالثاً، بالإضافة إلى أن النفس إذا كُررت عليه الموعظة رسخت فيها، ((وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) التفضيل على عالمي<ن> زمانهم لا على كل العوالم، فإن الظاهر من هكذا تفضيلات هو الاختصاص، فلو قيل أن الدولة الفلانية أقوى الدول، لم يُفهم منه إلا الأقوائية من الدول المعاصرة لها لا كل دولت أتت وتأتي، ثم أن تفضيلهم على العالمين إنما كان لأجل إيمانهم بموسى، بينما كان العالم بين كافر به عناداً - كفرعون ومن تبعه - أو جهلاً كمن كان في البلاد البعيدة التي لم تبلغهم دعوة موسى فكانوا قاصرين. سورة البقرة 48 ((وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً)) أي لا تُغني، فلا تدفع نفس عن نفس مكروهاً، وإنما الأمر كله لله، حتى الشفاعة تكون بإذنه، والمراد بذلك اليوم القيامة، ومعنى التقوى منه الاستعداد له، ((وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا)) أي من النفس ((شَفَاعَةٌ)) إلا إذا أذن الله للشفيع ((وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا)) أي من النفس ((عَدْلٌ)) أي فدية، وإنما سميت الفدية عدلاً لأنها تعادل المُفَدّى ((وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)) فإن طريق الخلاص في الدنيا إحدى هذه الأربعة، وليست شيء منها في الآخرة، إلا إذا أذن الله في الشفاعة، وعدم الاستثناء من "شفاعة" لأجل أن المراد منها الشفاعات الارتجالية كما هو المعتاد في الدنيا. سورة البقرة 49 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل نعمةً أنعمناها عليكم ((إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ))، ومن المتعارف أن ينسب الشيء المرتبط ببعض الأمة إلى جميعها، إذ يجمعهم العطف والهدى والانتصار، فيقال: "بنو تميم قتلوا فلانا،" وإنما قتله بعضهم، أو "عشيرة فلان شجعان،" وإنما جماعة منهم كذلك، ولذا قال سبحانه "نجيناكم"، وقد كان التنجية بالنسبة إلى أسلافهم، والمراد بآل الرجل وقومه وخواصه وإنْ لم تكن بينهم قرابة، كما يقال: "آل الله" لأهل البيت (عليهم السلام). ((يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ)) وسامه خسفاً عذباً بمعنى ألقاه فيه، ثم فسر سوء العذاب بقوله: ((يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ)) التذبيح هو التكثير في الذبح، ((وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ)) أي يدعونهن أحياء، فإن فرعون ملك القبط، لما علم من الكهان أنه يولد في بني إسرائيل - الذين كانوا طائفة خاصة من آل يعقوب (عليهم السلام) - أمر بذبح الأولاد، وإبقاء النساء للاسترقاق والنكاح، ((وَفِي ذَلِكُم)) "كم" خطاب فقط، و"ذلك" إشارة، فإذا كان طرف الخطاب واحد يقال: "ذلك"، وإذا كان اثنين يقال: "ذلكما"، وإذ<ا> كانوا جماعة يقال: "ذلكم"، و"ذا" هنا إشارة إلى سوء العذاب ((بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)) إنها كانت النسبة إلى الله تعالى، لأنه لم يحل بين فرعون وبين هذا العمل، كما يقال أن الأب أفسد ولده إذا لم يحل بينه وبين عمله الفاسد، وعدم حيلولة الله تعالى لأجل الامتحان والاختبار - كما تقدم - والإنجاء إنما كان بإهلاك فرعون وقومه. سورة البقرة 50 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ)) أي جعلنا فواصل في البحر حتى صارت بين الماء شوارع، وكان عملنا بسببكم ولأجلكم، والمراد بالبحر البحر الأحمر في مصر، وقد كان طول الشوارع التي أسفرت عنها الماء ما يقرب من أربعة فراسخ، فإن موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل فروا من فرعون فوصلوا إلى البحر، وعقبهم فرعون وقومه، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضرب، فانحسر الماء عن الشوارع حتى عبر بنو إسرائيل، واتبعهم فرعون وجنوده، ولما توسطوا الماء، وخرج موسى (عليه السلام) وقومه، رجع الماء إلى حالته الأولية، فأغرق فرعون وقومه، ((فَأَنجَيْنَاكُمْ)) من عدوكم ((وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)) مع فرعون، ولم يذكر تغليباً للآل عليه ((وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ)) كيف أغرقناهم لأجلكم، ولا يخفى أن الإعجاز هين بالنسبة إلى الله سبحانه، فتأويل بعض الناس للمعاجز انهزام مادي غربي. سورة البقرة 51 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))، واعد بمعنى أنه وعد، وأن موسى (عليه السلام) قَبِل، ولذا جيء بصيغة المفاعلة، ولا ينافي كون الوعد هنا أربعين ليلة، وفي آية أخرى ثلاثين، فإن هذه آية بالنسبة إلى الوعدين، وفي الآية الأخرى بالنسبة إلى الوعد الأول، فقد كان الله سبحانه وعد موسى أولاً ثلاثين، ثم مدده وأضاف عشراً، والوعد كان لإعطاء الثورة التي فيها أحكام الله وتنظيم أمور بني إسرائيل الذي هو نعمة عظيمة، ((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ))، أي من بعد موسى (عليه السلام)، أي وقت ذهابه إلى الطور للوعد، فإنهم - بعد ما ذهب موسى (عليه السلام) لميقات ربه - صنعوا عجلاً من ذهب، وجعلوه إلهاً لهم، وسجدوا له، فقابلوا نعم الله عليهم بالكفران وعبادة العجل، ((وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ))، جملة جمالية، والمراد ظلمهم بأنفسهم. سورة البقرة 52 ((ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ)) عبادتكم للعجل ((مِّن بَعْدِ ذَلِكَ)) الاتخاذ ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) نعمنا عليكم، فتعملوا بأوامرنا. سورة البقرة 53 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ آتَيْنَا مُوسَى)) نبيكم ((الْكِتَابَ)) وهو التوراة ((وَالْفُرْقَانَ)) أي الفارق بين الحق والباطل، فهو أهم من الكتاب، ((لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) و"لعل" ليس ترجياً من الله سبحانه بل بمعنى عاقبة الترجي. |
سورة البقرة 54 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ)) الذين عبدوا العجل وقت ذهاب موسى إلى الطور لتلقي الأوامر من الله سبحانه ((<يَا قَوْمِ> إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)) إلهاً، فإن اتخاذه موجب للغضب والذلة في الحياة الدنيا والآخرة ((فَتُوبُواْ)) توبة ((إِلَى بَارِئِكُمْ)) الذي برأكم وخلقكم وهو إلهكم، ((فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ)) بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده ولو كان قريباً له، فإنه كفارة للقاتل حيث سكت ولم يتكلم وللمقتول حيث عبد العجل، ((ذَلِكُمْ)) القتل ((خَيْرٌ لَّكُمْ))، إذ إن الألم القليل خير من عذاب النار الدائم ((عِندَ بَارِئِكُمْ))، متعلق بخير، أي أن هذا العمل خير عند الله وفي حكمه وإرادته، وذلك مقابل الخير عند الناس الذي هو بالبقاء والعيش في الدنيا، ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) بعدما سمعتم الأمر بأن تبتم، وقتل بعضكم بعضاً، ومعنى تاب عليكم قبل توبتكم، ((إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) بكم، فلم يغضب عليكم حتى لا يقبل توبتكم أبداً. سورة البقرة 55 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ)) بأن لنا إلهاً خلقنا وبيده أمورنا، أو لن نؤمن لك بأنك نبي مبعوث من قبل الله سبحانه ((حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً))، أي علانيةً وعياناً، فيخبرنا بذلك، وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلاُ يحضرون معه إلى الميقات لما طلبت منه بنو إسرائيل ذلك، ولما جاؤوا طلبوا رؤية الله تعالى، ((فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ))، وهي نار تنزل من السماء، أو مادة مذابة من المعدن ونحوه، فتصيب الإنسان فتقتله، إنهم لما طلبوا رؤية الله سبحانه نزلت صاعقة من السماء فقتلتهم جميعاً ((وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ))، حال نزولها، وسبب موتكم، فكان ذلك دليلاً لكم على ذنبكم وخطأكم، ولم يكن موتاً لم يعرف سببه حتى تقولوا أنه أمر طبيعي. سورة البقرة 56 ((ثُمَّ بَعَثْنَاكُم)) أي أحييناكم لمّا طلب موسى (عليه السلام) ذلك لئلا يقول الباقي من بني إسرائيل أنه (عليه السلام) قتلهم في الطور ((مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ)) بسبب الصاعقة، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) نعمنا عليكم. سورة البقرة 57 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل إذ كنتم في التيه حين أُمرتم بحرب العمالقة فعصيتم، فبقيتم في الصحراء مدة مديدة، وكنتم تتأذون من حر الشمس، ولم يكن لكم مأكل فـ((ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) بأن جعلناه سترةً لكم تقيكم من حر الشمس وبرد القمر، ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى))، "المن" شيء يشبه "الترنجين"، مادة حلوة، كانت تقع على أشجارهم فيأكلوها، والسلوى طير سماني، وإنزال السماني إما بكون هذه الطير - كان - كثيراً في التيه، فكانوا يصطادونه، أو بأنه كان ينزل عليهم الطير المشوي، وقلنا لكم: ((كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) طيبٌ مذاقاً وحقيقة، لكونه حلالاً، لكنهم كفروا بعد كل هذه النعم، ((وَمَا ظَلَمُونَا)) بكفرانهم، فإنهم لن يضروا الله شيئاً، ((وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) لأنهم أورثوا لأنفسهم ذلة في الدنيا وعذباً في الآخرة. سورة البقرة 58 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ قُلْنَا)) لكم بعد أن خرجتم عن التيه ((ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ)) بيت المقدس أو "أريحا"، وهي بلدة قريبة من بيت المقدس، ((فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ)) من الأماكن أو المأكل ((رَغَداً)) واسعا، ((وَادْخُلُواْ الْبَابَ))، أي باب القرية ((سُجَّداً)) جمع ساجد، أي في حال كونكم ساجدين، ((وَقُولُواْ حِطَّةٌ))، أي سجودنا لله حطة لذنوبنا ومحو لسيئاتنا، فإن فعلتم ذلك ((نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)) السالفة، ((وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)) منكم من خير الدنيا وخير الآخرة على ما يستحقون، كما قال سبحانه (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله). سورة البقرة 59 ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)) فقالوا "حنطة حمراء خير لنا" عوض "حطة "، كما أنهم دخلوا باستاههم عوض أن يدخلوا سجدا، ((فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) فيما فعلوا ((رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء))، الرجز العذاب ((بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)) أي بسبب عصيانهم. \ سورة البقرة 60 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)) أي سأل موسى من الله تعالى أن يسقيهم، وذلك حين كانوا في التيه، ولم يكن لهم ماء فظمئوا ((فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ))، وعصاه هي التي صارت ثعبانا، والحجر إما كان حجراً خاصا أو مطلق الحجر ((فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً)) بعدد أسباط بني إسرائيل، فانهم كانوا إثنتا عشرة قبيلة، فكانت تجري لكل قبيلة عين ((قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ)) أي كل قبيلة ((مَّشْرَبَهُمْ)) أي موضع شربهم، ((كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ)) الفساد ((مُفْسِدِينَ)) حال مؤكدة. سورة البقرة 61 ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى)) حين كنتم في التيه وينزل عليكم المن والسلوى ((لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ))، أي قسم واحد من الطعام ولو كان ذا لونين، فالمراد بالوحدة التكرر في كل يوم، ((فَادْعُ))، أي فاسأل ((لَنَا))، أي لأجلنا ((رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ))، أي من نباتها ((مِن بَقْلِهَا)) البقل أنواع الخضر ((وَقِثَّآئِهَا)) الخيار ((وَفُومِهَا)) الحنطة ((وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)) حتى نتقوت بها ونأكلها عوض المن والسلوى. ((قَالَ)) له<م> موسى (عليه السلام): ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ))، أي تتركون ما هو الأفضل مما اختاره الله لكم إلى ما هو الأدون مما ترغبون إليه، وكونها أفضل وأدون إما باعتبار السهولة والصعوبة أو باعتبار الطعم واللذة أو باعتبار التقوية والتغذية، وعلى أي حال، دعا موسى واستجاب الله دعاءه، وقال لهم: ((اهْبِطُواْ مِصْراً)) من الأمصار ((فَإِنَّ لَكُم)) في المصر ((مَّا سَأَلْتُمْ)) من الأطعمة، ((وَ)) لكن اليهود - بسبب تمردهم وعصيانهم ولجاجتهم المستمرة - ((ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)) فهم أذلاء في الأرض، لا حكومة لهم مستقلة، ولا عزة لهم عند الناس ((وَالْمَسْكَنَةُ)) فإنهم مع ثروتهم أحيانا لا يفارقون المسكنة، حيث أنهم دائمو التبؤس لمخافتهم من الفقر، وهذه الآية من معاجز القرآن الكثيرة، فان اليهود لم تقم لهم حكومة من تاريـخ القرآن إلى هذا اليوم إلا بحبل من الناس، واتصال بالحكومات القوية، ((وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ))، "باء" أي رجع، والمراد أنهم بعملهم السيئ غضب الله عليهم، ((ذَلِكَ)) المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والرجوع بالغضب ((بِ)) سبب ((أَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)) المنزلة على موسى (عليه السلام)، حيث لم يكونوا يطيعون، ((وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ))، فإن الأنبياء تواترت إليهم لكثرة لجاجتهم، فكانوا يقتلونهم، وقوله تعالى ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) قيد توضيحي، إذ لا يكون قتل النبي حقا أبدا، وذلك بخلاف ما لو قيل يقتل البشر بغير الحق، ((ذَلِكَ)) المذكور من كفرانهم وقتلهم الأنبياء، ((بِمَا عَصَواْ))، أي بسبب عصيانهم للأوامر العقلية والشرعية ((وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ)) فإن عصيانهم واعتداءهم صار سبباً للقتل والكفر، وهما سببا ضرب الذلة والمسكنة والغصب. |
سورة البقرة 62 ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ)) من المسلمين ((وَالَّذِينَ هَادُواْ)) أي صاروا يهوداً باليهودية ((وَالنَّصَارَى)) المؤمنين بعيسى (عليه السلام) ((وَالصَّابِئِينَ)) وفيهم غموض وخلاف، وربما قيل أنهم عبدة النجوم ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) حقيقةً، ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) مما أمر به الله سبحانه ((فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة- كما تقدم- ((وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) فلا ييأس أحد من روح الله ما دام في الدنيا، وإنما قيدنا "من آمن" بـ"حقيقة" لئلا ينافي ما في صدر الآية "إن الذين آمنوا". سورة البقرة 63 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ)): العهد الشديد، وقد تقدم مكان أخذ العهد، ((وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)) وذلك أن موسى (عليه السلام) لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها، فقطع جبرائيل (عليه السلام) قطعة من جبل طور ورفعها فوق رؤوسهم مهدداً، أنهم إن لم يقبلوا التوراة قذفها على رؤوسهم، فقبلوا قبول التوراة مجبرين، وقلنا لكم ((خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ)) أي بجد ويقين وشدة لا تحسدوا عنه، ((وَاذْكُرُواْ)) أي احفظوا واعملوا بـ((مَا فِيهِ)) أي في "ما آتيناكم" وهو التوراة ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي تخافون، فإن العامل بأوامر الله يكون خائفاً متقياً. سورة البقرة 64 ((ثُمَّ تَوَلَّيْتُم))، أي أعرضتم أيها اليهود ((مِّن بَعْدِ ذَلِكَ)) الميثاق الأكيد، فلم تعملوا بما في التوراة، ولم تتمثلوا أوامرنا، ((فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) حيث تفضل عليكم بالتوبة، ((وَرَحْمَتُهُ)) بأن رحمكم فلم يؤاخذكم بسيئات عملكم، ((لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ)) في الدنيا والآخرة، فأي <أي> من ينسلخ عنه الإيمان يكون من أخسر الناس. سورة البقرة 65 ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ))، أي عرفتم أيها اليهود ((الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ))، أي جاوزوا حدود الله فيه، وذلك أنهم حُرّم عليهم اصطياد السمك في السبت، فكانت الأسماك تأتي وتتجمع في هذا اليوم لشعورها بأمنها في هذا اليوم، فكان اليهود يحتالون لأخذها بإيصال الماء إلى أحواضهم، فلما تأتي إليها الأسماك يوم السبت سدوا طريقها، ثم يصطادونها يوم الأحد، وكان هذا خرقا لحرمات الله، ((فَقُلْنَا لَهُمْ))، أي للمعتدين ((كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ))، أي مبعدين عن الخير دنيا وآخرة، لأنكم أيها اليهود الذين شاهدتم هذا المسخ بالنسبة إلى المعتدي فكيف تعملون خلاف أوامر الله سبحانه؟ سورة البقرة 66 ((فَجَعَلْنَاهَا))، أي جعلنا المسخة التي مسخوا بها والعقوبة التي عوقبوا فيها ((نَكَالاً))، أي عبرة ((لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا))، أي من كان في زمانهم من سائر اليهود والأمم ((وَمَا خَلْفَهَا)) الذين <الذي> يأتي من بعدهم مما يسمع بأخبارهم، أو يكون معنى "نكالا" عقوبة، فالمعنى جعلنا المسخة عقوبة للمعاصي التي ارتكبوها مما كانت بين يدي المسخة، وهو "الاعتداء" وما خلف المسخة من سائر المعاصي التي كانوا يرتكبونها بعد اعتدائهم في السبت، ((وَ)) جعلناها ((مَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)) لئلا يرتكبوا خلاف أمر الله سبحانه. سورة البقرة 67 ((وَ)) اذكروا أيها اليهود قصة البقرة، وهي أنهم وجدوا قتيلاً لم يُعرف قاتله، فرجعوا إلى موسى (عليه السلام)، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوا القتيل بها ليحيى القتيل ويخبرهم بالقاتل، وكان هذا اختبارا لإيمانهم، حيث أن كون ضرب ميت بميت موجبا للحياة مما لا يصدقه ضعفاء الإيمان، ولهذا جعلوا يسألون أسئلة تافهة من موسى (عليه السلام) حول البقرة. ((إِذْ قَالَ مُوسَى)) (عليه السلام) ((لِقَوْمِهِ)) بني إسرائيل: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)) لإحياء القتيل، ((قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً))، أي أتسخرنا وتتخذنا سخرية، فما الربط بين القتيل وبين ذبح البقرة، أو كيف تكون البقرة الميتة سبباً لإحياء القتيل؟ ((قَالَ)) موسى (عليه السلام) ((أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) الذين يستهزئون بالناس، فإن السخرية من شأن الجهال والسفهاء. سورة البقرة 68 ((قَالُواْ ادْعُ لَنَا))، أي اطلب من أجلنا ((رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ))، أي ما هي البقرة من حيث سنها وعمرها، ((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) تعالى ((يَقُولُ إِنَّهَا))، أي البقرة يلزم أن تكون ((بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ))، الفارض الكبيرة الهرمة والبكر الصغيرة، ((عَوَانٌ)) أي وسط العمر ((بَيْنَ ذَلِكَ))، أي المذكور بين الصغير والكبير ((فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ)) من ذبح هكذا بقرة. سورة البقرة 69 ((قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ))، أي اسأل من ربك لأجلنا ((يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا))، أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها، ((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) تعالى ((يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء)) اللون ((فَاقِعٌ لَّوْنُهَا))، أي حسنة الصفرة لا تضرب إلى السواد لشدتها، ولا إلى البياض لمقلتها، ((تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)) إليها، أي تعجب الناظرين، وتفرحهم بسبب حسن لونها. سورة البقرة 70 ولما بين سبحانه سن البقرة ولونها سألوا عن صفتها، ((قَالُواْ)) يا موسى ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ)) البقرة؟ أتكون من العوامل أو من السوائم التي لا تعمل؟ فـ((إِنَّ البَقَرَ)) الذي أمرتنا بذبحه ((تَشَابَهَ))، أي اشتبه ((عَلَيْنَا))، وإنه كيف ينبغي أن يكون؟ ((وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)) إلى صفة البقرة بتعريف الله سبحانه لنا كيف يجب أن يكون، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد الله عليهم، ولو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد." سورة البقرة 71 ((قَالَ)) موسى (عليه السلام): ((إِنَّهُ)) سبحانه ((يَقُولُ إِنَّهَا))، أي البقرة التي أمرتم بذبحها ((بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ)) يذلها العمل، ((تُثِيرُ الأَرْضَ))، أي تعمل وتكرب لإثارة الأرض، ((وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ)) الحرث الزرع، فلا تسقيه بالناعور، والدلاء، والمعنى أن لا تكون عاملة، ((مُسَلَّمَةٌ))، أي سالمة لا نقص فيها، فهي بريئة من العيوب ((لاَّ شِيَةَ)) من الوشي بمعنى اللون ((فِيهَا))، أي لا لون فيها يخالف لونها، وهذا ليس تأكيد لما سبق، إذ كونها صفراء لا تدل على عدم الوشي فيها، ((قَالُواْ)) لموسى (عليه السلام): ((الآنَ)) وبعد هذه التوضيحات لصفات البقرة ((جِئْتَ بِالْحَقِّ)) الواضـح، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله (عليه السلام) سابقا بقوله "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، ((فَذَبَحُوهَا))، أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها، ((وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ))، أي كاد أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها، فإنها انحصرت في بقرة واحدة، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش. |
سورة البقرة 72 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)) ادارأتم بمعنى اختلفتم، وأصله تدارأتم، ((وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)) من أمر القاتل، وإنه مَنِ القاتل، ولماذا قتل. سورة البقرة 73 ((فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ))، أي اضربوا القتيل ((بِبَعْضِهَا))، أي ببعض البقرة المذبوحة التي أمروا بذبحها، ((كَذَلِكَ)) أي مثل هذا الإحياء ((يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى)) في يوم القيامة، فإن القتيل لما ضرب بالبقرة قام حيا وأوداجه تشخب دما، وأخبر بسبب قتله وبالذي قتله، ((وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ)) في الكون وفي أنفسكم، أو بمعنى يريكم معجزاته، ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))، أي كي تستعملوا عقولكم. ولعل وجه تأخير آية "وإذ قتلتم" على الآيات السالفة - مـع أن النظم يقتضي تقديمها - إن السياق لبيان لجاجة اليهود وعدم إطاعتهم الأوامر، فكان المقتضى تقديم ما يدل على ذلك. سورة البقرة 74 ((ثُمَّ)) من بعد ما رأيتم هذه الآيات أيها اليهود ((قَسَتْ قُلُوبُكُم))، أي غلظت ((مِّن بَعْدِ ذَلِكَ)) المذكور من آيات الله تعالى، أو من بعد ذبح البقرة، وما رأيتم من إحياء الله الميت، ((فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ)) في القسوة للمعقول بالمحسوس ((أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً))، وبين سبب أشديتها قسوة بقوله: ((وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا)) اللام للتأكيد، و"ما" موصولة، أي الحجر الذي ((يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ)) فيكون مبعثا للخير نافعا، بخلاف قلوبكم التي لا يأتي منها إلا الشر، ((وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ)) أصله تشقق ((فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء))، فيكون عينا وإن لم يجْرِ، وبهذا يفترق عن السابق، وهو ما يتفجر منه الأنهار، ((وَإِنَّ مِنْهَا))، أي من الحجارة ((لَمَا يَهْبِطُ))، أي ينزل من الجبل ويسقط ((مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ))، فإن كل حجارة تسقط، لابد وأن تكون سقطتها بإذن الله ومن خشيته خشية واقعية أو تشبيه، كالذي يخشى كثيرا فيسقط على وجهه، وقلوبكم أيها اليهود أقسى من تلك الحجارة، إذ لا تخشى من الله سبحانه، ولا تتواضع لعظمته ((وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) أيها اليهود، فيجازيكم بسيئات أعمالكم. سورة البقرة 75 ((أَفَتَطْمَعُونَ)) أيها المسلمون ((أَن يُؤْمِنُواْ))، أي يؤمن اليهود ((لَكُمْ))، أي لنفعكم، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين، أو بمعنى الإيمان بمبادئكم، وهذا استفهام انكاري، أي لن يؤمن هؤلاء اليهود بالإسلام، ((وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ)) أي من هؤلاء، وهم أسلافهم، وإنما صحت النسبة إليهم، أن الأمة الواحدة والقبيلة الواحدة تكون متشابهة الأعمال والأفعال والأقوال، ((يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ)) الذي يتلوه الأنبياء عليهم، ((ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)) بالزيادة والنقصان لفظاً أو معنىً، كما هو المتعارف عند من يريد نقل كلام لا يرتضيه، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد - لو وجد إلى ذلك سبيلا - وإما أن يفسره بغير ما أراد المتكلم ((مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ))، وفهموه ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام الله بعد تعقل هذا العمل. سورة البقرة 76 ((وَإِذَا لَقُواْ)) من الملاقاة، أي لقي اليهود، وكانت هذه خصلة بعضهم نسبت إلى الجميع، كما هو المتعارف من نسبة ما يقوم به البعض إلى الجميع، ((الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا)) بأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا موجود في كتبنا بوصفه وحليته، ولم يقصدوا الإيمان الحقيقي كسائر المسلمين، ولا الإيمان الظاهري كالمنافقين، وإنما أريد الإيمان بمعناه اللغوي، وهذا ذم لهم، حيث أنهم اتصفوا بصفات المنافقي،ن ((وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ)) وجمع هؤلاء اليهود وغيرهم من سائر اليهود مجلس خال عن المؤمنين ((قَالُواْ))، أي قال من لم يكن يظهر الإيمان لمن أظهره: ((أَتُحَدِّثُونَهُم))، أي لماذا تحدثون المسلمين ((بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ)) أي بما عرفكم الله في كتابكم، بأن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حق؟ يقال فتح عليه باب العلم إذا أرشده إليه وعلمه به ((لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ))، أي إذا أظهرتم أنتم أيها اليهود للمسلمين أن في كتابكم صفات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حاجوكم يوم القيامة عند الله فيقول المسلمون لليهود المظهرين أنتم ذكرتم أن في كتابكم صفات النبي، فلم لم تؤمنوا به ((أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) أيها اليهود المظهرين للمسلمين، إن إظهاركم سبب لغلبة المسلمين عليكم في الحجة عند الله. سورة البقرة 77 ((أَوَلاَ يَعْلَمُونَ))، يعني اليهود المنافقين، ((أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ)) يسر بعضهم إلى بعض ((وَمَا يُعْلِنُونَ))، وما الفائدة في أن لا يظهروا صفات النبي؟ فإن الله يعلم أنهم يعلمون صفاته ولا يؤمنون به عناداً. سورة البقرة 78 ((وَمِنْهُمْ))، أي من اليهود ((أُمِّيُّونَ))، منسوب إلى الأم، بمعنى من لا يقرأ ولا يكتب كأنه نشأ تحت تربية أمه، لا تحت تربية المعلم ((لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ))، الأماني جمع أمنية، كالأغاني جمع أغنية، والأماني الأحاديث المختلفة، أي أنهم لا يعرفون ما في التوراة من صفات النبي وغيرها، وإنما هم جهلاء، يأخذون أمور الكتاب عن علمائهم محرفه مختلفة، فلا يميزون بين الحق والباطل ((وَإِنْ هُمْ))، أي ما هم ((إِلاَّ يَظُنُّونَ)) بصحة ما يسمعون، ولا يتيقنون لأنهم لم يطالعوا الكتب بأنفسهم حتى يعرفون ما فيه. سورة البقرة 79 ((فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ))، أي لعلمائهم الذين ((يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ))، أي التوراة ((بِأَيْدِيهِمْ))، كنايـة عن أنها غير منزلة، وإنما مكتوبة، مبعثها الأيدي لا الوحي والإلهام ((ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا)) المكتوب ((مِنْ عِندِ اللّهِ))، وإنه منزل منه، ((لِيَشْتَرُواْ بِهِ))، أي بما يكتبونه ((ثَمَناً قَلِيلاً))، لأنهم لو كانوا يظهرون ما في التوراة حقيقة رجع مقلدوهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم يكونوا يبذلون لهم الأموال والاحترام، ((فَوَيْلٌ لَّهُم))، أي للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ((مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ))، فإنه يوجب عذاباً، لأنه تحرير لكلام الله تعالى، ((وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) من الأموال إزاء تحريفاتهم، فإن ثمن الحرام حرام آخر، وذلك موجب للعذاب فإنه أكل للأموال بالباطل، والويل أصله الهلاك والعذاب، ثم استعمل في كل واقـع في الهلكة. |
سورة البقرة 80 ((وَقَالُواْ))، أي قال قسم من اليهود: ((لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً))، فلن نعذب في جهنم إلا سبعة أيام أو ما أشبه على تقدير كفرنا وعصياننا، فلماذا نترك رئاسة الدنيا خوفاً من عذاب قليل؟ ((قُلْ)) يا رسول الله لهم: ((أَتَّخَذْتُمْ))، أي هل اتخذتم ((عِندَ اللّهِ عَهْدًا)) بذلك؟ ((فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ)) كذبا وزورا ((عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))؟ ومن أدراكم، إن العذاب أيام معدودة؟ سورة البقرة 81 ((بَلَى)) ليس الأمر كما قالوا، لكن ((مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَ)) لم ينقلع عنها، بل ((أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) كالإنسان الذي يقع في دخان حيث يحيط به الدخان، حتى لا يتنفس ولا يبصر ولا يسمع إلا في الدخان، وكذلك المشرك المنحرف في الخطيئة، ((فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) إلى الأبد. سورة البقرة 82 ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ)) بقلوبهم وألسنتهم، ((وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ)) التي أمر بها الإسلام، ((أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) بها لا انقطاع لها ولا زوال. سورة البقرة 83 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ))، عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم، بأن ((لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ)) وحده ((وَ)) بأن أحسنوا ((بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً))، ولا تسيئوا إليهما ((وَ)) أحسنوا إلى ((ذِي الْقُرْبَى)) أقربائكم ((وَالْيَتَامَى)) الذين مات والدهم ((وَالْمَسَاكِينِ)) الفقراء، ((وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)) وذلك يشمل جميع أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد ورد الاعتداء بالحسن، ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)) وهما في سائر الأمم لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلا في هذه الأمة، ((ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ))، أعرضتم، ((إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ)) الذين عملوا بأوامرنا، ((وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ)) تأكيداً لقوله "توليتم". سورة البقرة 84 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ))، عهدكم الأكيد على لسان الأنبياء ((لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ))، أي لا يسفك بعضكم دماء بعض، ((وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ))، أي لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار، بأن يسفرهم ويبعدهم، ((ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)) بذلك الميثاق بأن أعطيتمونا العهود بذلك ((وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)) أيها اليهود بوقوع هنا الميثاق بيننا. سورة البقرة 85 ((ثُمَّ)) بعد ذلك الميثاق ((أَنتُمْ هَؤُلاء)) الذين ((تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ)) مخالفه لأوامرنا، ((تَظَاهَرُونَ)) أنتم، أي يتعاون بعضكم مع بعض في إخراجكم لهم تظاهراً ((عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) لا إخراجا بالحق، ((وَ)) الحال ((إِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ)) أي كيف يخرج بعضكم بعضا، ويقتل بعضكم بعضا مع إنكم إذا وجدتم بعضكم أسيرا في أيدي غيرهم تعطون الفدية لخلاصهم، فإن كان بينكم عداء، فما هذه الفدية؟ وإن كان بينكم وداد فما هذا القتل والإخراج، روي عن ابن عباس أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مـع الخزرح، وكانت قريضة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلمائها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة، وروي عن آخر أن اليهود كان إذا استضعف جماعة آخرين أخرجوهم من ديارهم ((<وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ > أَفَتُؤْمِنُونَ)) أيها اليهود ((بِبَعْضِ الْكِتَابِ))، أي التوراة القائل بوجوب إعطاء الفدية لأسراكم، ((وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)) القائل بحرمة القتل والإخراج والتظاهر بالإثم والعدوان؟ ((فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ))، احكموا أنتم بانفسكم، ((إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) بالتفرقة والضعف والمهانة عند سائر الأمم، ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)) بمخالفتهم أوامر الله سبحانه، ((وَمَا اللّهُ))، أي ليس الله ((بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))، فإنه يعلم أعمالكم، فيجازيكم عليها. سورة البقرة 86 ((أُولَئِكَ)) اليهود الذين خالفوا الأوامر بتلك الأفعال، ((الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ)) فباعوا الآخرة، وأخذوا الدنيا بدلها، ((فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ)) يوم القيامة، ((وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)) هناك. سورة البقرة 87 ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ))، أعطينا التوراة إياه، ((وَقَفَّيْنَا))، أي أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض ((مِن بَعْدِهِ))، أي بعد موسى، ((بِالرُّسُلِ))، رسولا يتبـع رسولا، ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ))، جمع بينة، أي الدلالة الواضحة، وهي المعجزات التي أعطيت لعيسى (عليه السلام) من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ((وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ))، التأييد التقوية وروح القدس إما جبرائيل (عليه السلام) أو روح قوية من الله سبحانه فيه تقوية على التبليغ والإرشاد مـع كثرة أعدائه، ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ)) أيها اليهود ((رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ)) ولا يمثل إليه من الأحكام ((اسْتَكْبَرْتُمْ)) وتكبرتم عن قبول أحكام الله سبحانه، ((فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ)) - كعيسى ومحمد صلوات الله عليهما، ((وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)) - كزكريا ويحيى (عليهما السلام)؟ وهذا استفهام إنكاري عليهم. سورة البقرة 88 ((وَقَالُواْ))، أي قالت اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ((قُلُوبُنَا غُلْفٌ)) جمع أغلف، بمعنى إنها في غطاء وغلاف عن هدايتكم، فلا تصل الهداية إليها، كما في آيه أخرى (وقالوا قلوبنا في أكنة)، ((بَل)) ليس كذلك، وإنما ((لَّعَنَهُمُ اللَّه)) وأبعدهم عن الخير ((بِـ)) سبب ((كُفْرِهِمْ))، فإنهم لما كفروا ولم يمتثلوا أوامر الله أبعدهم الله عن الخير، كمن لا يسمع شخص أمره، فيتركه، ولا يعتني به ((فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ)) لما ران على قلوبهم، وأظلمت نفوسهم بالكفر. |
سورة البقرة 89 ((وَلَمَّا جَاءهُمْ))، أي اليهود ((كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ))، هو القرآن، ((مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ))، أي الكتاب الذي مـع اليهود، وهو التوراة، فإن القرآن يصدق التوراة الحقيقي المنزل على موسى (عليه السلام)، (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور)، ((وَكَانُواْ))، أي اليهود ((مِن قَبْلُ))، أي قبل أن يأتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ينزل القرآن ((يَسْتَفْتِحُونَ))، أي يطلبون الفتح من الله ((عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ))، فإنهم كانوا يدعون الله أن يبعث الرسول حتى يكونوا أرجـح كفة من الكفار، ((فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ))، أي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عرفوه بصفاته ومزاياه ((كَفَرُواْ بِهِ))، وأخذوا يحاربوه، بل فوق ذلك أنهم كانوا يرجحون الكافرين على الرسول والمؤمنين قائلين (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا)، ((فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى)) اليهود ((الْكَافِرِينَ)) بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالقرآن، وهم يعرفون ذلك. سورة البقرة 90 ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ))، أي بئس الشيء الذي باع اليهود بذلك أنفسهم، فأعطوا أنفسهم للعذاب الأبدي، واشتروا الكفر ((أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ)) بدل "ما"، أي بئس الكفر الذي أخذوه مقابل أنفسهم، وذلك تشبيه، فكأن الكفر والإسلام سلعتان فمن اختار أحدهما باع نفسه بذلك الشيء، إذ يصرف نفسه في سبيل ذلك، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه، وإذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه، واشترى هنا بمعنى البيـع، كما قال: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)، ((بَغْياً))، أي حسداً، وهو علة لاشترائهم السيئ، أي كان سبب شرائهم الكفر الحسد الذي كان فيهم لمحمد (صلى الله عليه وآله سلم)، حيث أنه من ولد إسماعيل لا من ولد جدهم إسحاق (عليهما السلام)، ((أَن يُنَزِّلُ اللّهُ)) الدين ((مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ))، و"أن ينزل" متعلق بـ"بغيا"، أي أن الحسد من جهة نزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، ((فَبَآؤُواْ))، أي رجع اليهود ((بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ))، فإنهم كانوا مغضوباً عليهم من جهة تعدياتهم في زمان موسى وعيسى وسائر الأنبياء (عليهم السلام)، فغضب الله عليهم مرة أخرى من جهة كفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ((وَلِلْكَافِرِينَ)) الذين من أظْهَر مصاديقهم اليهود ((عَذَابٌ مُّهِينٌ))، وهو العذاب الذي يذل صاحبه ويهينـه. سورة البقرة 91 ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ))، أي لليهود ((آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ)) على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ((قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا)) من التوراة، ((وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ))، أي وراء ما نزل عليه من كتاب عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ((وَهُوَ))، أي ما وراء كتابهم ((الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ)) والجملة حالية، ((قُلْ)) إنكم تكذبون في قولكم "نؤمن بما أنزل علينا"، فإنك<م> لستم بمؤمنين حتى بالتوراة، وإلا ((فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ)) في السابق ((إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) بالتوراة، فإن كتابكم حرم قتل الأنبياء، فأنتم لستم بمؤمنين لا بكتابكم ولا بما بعد كتابكم من الإنجيل والقرآن. سورة البقرة 92 ((وَ)) كيف تقولون "نؤمن بما أنزل علينا" وعملكم يدل على خلاف ذلك؟ فـ((لَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ))، أي بالحجج الواضحة، ((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ)) إلهاً لكم ((مِن بَعْدِهِ))، أي بعد رواحه إلى الطور، ((وَ)) الحال ((أَنتُمْ ظَالِمُونَ)) لأنفسكم في عبادة العجل، فلو كنتم مؤمنين بما نُزِّل عليكم لم تتخذوا العجل إلها؟ سورة البقرة 93 ((وَ)) اذكروا يا بني إسرائيل ((إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ)): عهدكم الشديد بالعمل بالتوراة، ((وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ))، أي قطعة من جبل الطور- كما تقدم - وقلنا لكم ((خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ))، أي بشدة، بمعنى العمل بكل ما في الكتاب عملاً مستمراً قوياً، ((وَاسْمَعُواْ)) أوامر الله سبحانه. ((قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا))، حكاية حالهم، ويحتمل أنهم قالوه بلفظهم استهزاء، ((وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)) فكما أن من شرب الماء يدخل الماء في جوفه كذلك اليهود دخل العجل- أي حبه - في قلوبهم ((بِـ)) سبب ((كُفْرِهِمْ)) بالله سبحانه، ((قُلْ)) يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: ((بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ)) الذي قلتم (نؤمن بما أنزل علينا)، فإن الإيمان الذي يأمر باتباع العجل ليس إيمانا وإنما هو كفر، ((إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ))، وهذا استهزاء لهم، ثم إنه إنما كرر "رفـع الطور" للدلالة على أنهم عكسوا الميثاق الذي أخذ منهم - حال الرفـع - بل اتخذوا العجل إلهاً. سورة البقرة 94 ((قُلْ)) يا رسول الله لهؤلاء اليهود، الذين يقولون أن الآخرة هي لهم وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من النصارى والمسلمين وغيرهما: ((إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ)) عند الله، صفة للدار الآخرة، أي الدار التي هي عند الله، ومن دون الناس صفة لخالصته، أو لقوله "لكم" ((فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ))، لأن من يدري أن مصيره إلى الجنة لابد وأن يتمنى الموت، حتى يخلص من آلام الدنيا وأتعابها ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في مقالكم وكنتم تعتقدون ما تقولونه بألسنتكم. سورة البقرة 95 ثم أخبر سبحانه بأنهم ليسوا صادقين ((وَ)) الدليل على ذلك أنهم ((لَن يَتَمَنَّوْهُ))، أي الموت ((أَبَدًا)) في حين من الأحيان ((بِـ)) سبب ((مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) من المعاصي والمنكرات والكفر، وإنما نسب التقديم إلى اليد لأنها الآلة الظاهرة في تقديم الأشياء المحسوسة غالباً، ((وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ))، فلا يفتر بمقالهم إن لهم الآخرة وإنهم أحباء الله، دون من سواهم. سورة البقرة 96 ((وَ)) كيف أنهم يتمنون الموت، والحال أنك يا رسول الله ((لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ))، فإنهم أشد حرصاً من سائر الناس على البقاء في الدنيا، لأنهم يعلمون أن آخرتهم إلى النار والعذاب، ((وَ)) حتى أنهم أحرص ((مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ)) إذ المشرك يزعم أنه لا شيء وراءه، فيكون حريصا على البقاء لئلا يفنى، وهؤلاء حيث يعلمون العقاب، يكونوا أحرص من المشركين، ((يَوَدُّ))، أي يحب ((أَحَدُهُمْ))، أي كل واحد منهم ((لَوْ يُعَمَّرُ)) ويطول عمره ((أَلْفَ سَنَةٍ)) حتى لا يذوق العذاب عاجلاً، ((وَ)) الحال ((مَا هُوَ))، أي ليس التعمير ألف سنة ((بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ))، زحزحه أي نحاه، وقوله ((أَن يُعَمَّرَ)) بدل "هو"، أي ما التعمير بمزحزحه من العذاب، فما الفائدة في البقاء ألف سنة لمن عاقبته النار، ((وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)) من الكفر والسيئات، فيجازيهم عليها يوم القيامة بالنار والعذاب. |
سورة البقرة 97 ((قُلْ)) يا رسول الله لليهود الذين جاؤوك وقالوا لك لو أن الملك الذي يأتيك ميكائيل لامنا بك، فإنه ملك الرحمة يأتي بالسرور والرخاء وهو صديقنا، وجبرائيل ملك العذاب ينزل بالقتل والشدة والحرب وهو عدونا، فإن كان ينزل عليه جبرائيل لا نؤمن به. ((مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ)) ليس سببا فيما يعمل حتى تتخذونه عدواً، بل إنه ((نَزَّلَهُ))، أي القرآن ((عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ)) لا من عند نفسه ((مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ))، أي للكتاب الذي قبله وهو التوراة ((وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))، فأي ذنب لجبريل (عليه السلام) حتى تتخذونه عدواً ولا تؤمنون بالكتاب الذي يأتي به. سورة البقرة 98 ((مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ))، أي يفعل فعل المعادي من الإتيان بما يكرهه سبحانه ((وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ))، وإنما خصهما بالذكر لأنهما موضع البحث مـع اليهود ((فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ))، إذ كل من يعادي أحد هؤلاء يكون كافرا والله عدو لمن كفر، أي يفعل معه فعل المعادي من الإهانة والتعذيب والعقاب. سورة البقرة 99 ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ)) يا رسول الله ((آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)) واضحات ((وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ)) الفاسق هو الخارج عن طاعة الله سبحانه. سورة البقرة 100 ((أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ))، أي اليهود ((عَهْداً نَّبَذَهُ))، أي نقضه ((فَرِيقٌ مِّنْهُم))، أي جماعة ((بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) وهذا إنكار عليهم في نقضهم عهود الأنبياء السابقة بإطاعتهم ونقضهم عهود رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قصة نضير وقريضة، والمراد بالإيمان إما الإيمان بالعهود وإما الإيمان بالله ورسله وإما الإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما قال أكثرهم أن بعضهم آمن كعبد الله بن سلام. سورة البقرة 101 ((وَلَمَّا جَاءهُمْ))، أي اليهود ((رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ)) كعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ((مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ)) من التوراة ((نَبَذَ فَرِيقٌ))، أي جماعه ((مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ)) من اليهود الذين أتاهم الله التوراة ((كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ))، وتركوا أوامره باتباع الأنبياء من بعد موسى ((كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ))، أي من أحكام التوراة الإيمان بالأنبياء واتباع الرسل. سورة البقرة 102 ((وَاتَّبَعُواْ)) عوض الكتاب السحر، فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم، وراحوا يتعلقون بـ((مَا تَتْلُواْ)) وتقر ((الشَّيَاطِينُ)) والسحرة ((عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)) بن داود (عليهما السلام)، حيث أن الشياطين على لسان السحرة على زمان سليمان كانوا يتلون السحر للناس، و"على" بمعنى "في" كما قال ابن مالك: "على للاستعلاء ومعنى في وعن"، أي أن اليهود أخذوا يتعلقون بالسحر الذي كان في زمان سليمان يريدون بذلك جلب الأموال والتقرب إلى الناس، وكانوا يقولون أن سليمان إنما أوتي الملك العظيم بسبب أنه كان يعمل بالسحر، فرد الله عليهم بقوله: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ))، فإن السحر موجب للكفر ولا يخفى أن الكفر على نوعين كفر في العقيدة وكفر في العمل، فالكفر في العقيدة هو إنكار أصول الدين، والكفر في العمل هو ترك واجب أو فعل، ولذا شاع استعمال الكفر على ترك الأوامر <و>فعل النواهي كقوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) في قصة الحـج، وقوله: (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) في باب الشكر، وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة" وعد منها النمام ونحوه، وعلى أي حال فسليمان ما كان ساحرا ولم ينل ما نال بالسحر، وإنما بالنبوة والموهبة الإلهية، ((وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ)) بعملهم بالسحر وتعليمهم للناس إياه، والشياطين أرواح شريرة تلقي الشر في النفوس، كما ثبت في العلم الحديث أيضا وغيره في باب التحضير والتنويم المغناطيسي، ((يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ))، والسحر أمور غير طبيعية تأتي بعلاج خفي ومنه التصرف في العين وفي النفس وفي العقل فيوجب عداوة بين الناس ومرضا وما أشبه، ((وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)) عطف على قوله "ما تتلوا"، أي أن اليهود تركوا الكتاب واتبعوا سحر الشياطين وسحر الملكين. ومن قصتهما أن بعد نوح (عليه السلام) كثرت السحرة، فأنزل الله ملكين في "بابل" على نبي ذلك الزمان حتى يعلما الناس إبطال السحر فكانا يقولان للناس: "هذا السحر وهذا إبطاله" كالطبيب الذي يكتب كتاب الطب فيصف الداء وما يسببه والدواء المزيل له فيقول مثلاً أن الشيء الفلاني سم ودوائه كذا فكان الملكان يعلمان السحر وإبطاله، ويحذران الناس أن يعملوا بالسحر، وإنما يصران أن يبطلوا السحر، فإذا تعلم منهما الناس أخذ بعضهم بالسحر - كما أن الشخص يقرأ كتاب الطب فيسقي الناس السم لم يكن ذلك من ذنب المؤلف للطب وإنما هو من العامل بما يضر الناس. فقد ترى اليهود كتاب الله وأخذوا بالعلم الذي أَنزَل - أي أنزل الله - على الملكين الذين نزلاً ((بِبَابِلَ)) وهما ((هَارُوتَ وَمَارُوتَ))، ولا يظن أحد أنهما كيف يعلمان السحر للناس وهما ملكان من قبل الله تعالى، ((وَ)) ذلك لأنه ((مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ))، أي ما يعلمان أحد السحر ((حَتَّى يَقُولاَ)) له ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ)) وامتحان لك، وكان تعليم للعلاج لا للإضرار، ((فَلاَ تَكْفُرْ)) بأعمال السحر، ((فَيَتَعَلَّمُونَ))، أي الناس ((مِنْهُمَا))، أي من الملكين ((مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)) وما يوجب العداوة والبغضاء بين الزوجين مما يؤول إلى الفراق والطلاق، ((وَ)) لا يتوهم أن الأمر خرج من يد الله سبحانه، كلا بل إنما شاء الله أن يختبر عباده كما أنه حين يخلق العنب، ويعطي القدرة للبشر، فيعصره خمراً، لا يخرج الأمر من يده سبحانه، بل إنما ذلك للامتحان والابتلاء، ولهذا قال سبحانه: ((مَا هُم))، أي الملكان ومتعلم السحر منهما ((بِضَآرِّينَ بِهِ))، أي بسبب السحر ((مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ))، فإن شيئا لا يؤثر في شيء إطلاقا إلا بإذن الله، ومعنى إذنه أنه يخلي بين المؤثر والمتأثر ولو لم يخل كان عالم الجبر وبطل الامتحان والاختبار، والمراد بهذه الجملة أن شيئا لا يخرج من إرادة الله سبحانه حتى أن يتمكن من الردع لكنه لا يردع، ((وَيَتَعَلَّمُونَ))، أي يتعلم الناس من الملكين ((مَا يَضُرُّهُمْ))، أي الشيء الذي يضرهم في دنياهم ودينهم ((وَلاَ يَنفَعُهُمْ))، أكد بذلك رداً لزعمهم أن السحر ينفعهم حيث يوصلهم إلى إعراضهم ((وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ))، أي علم هو المتعلمون للسر <للسحر> أن من اشترى السحر وباع دينه ((مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ))، أي من نصيب، ((وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ))، فإنهم أعطوا نفسهم للنار مقابل اشتراء السحر الذي زعموا إنه ينفع دنياهم، ((لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ))، نّزَّل العالم بالشيء منزلة الجاهل حيث لم يعمل بعلمه فإن من لا يعمل بعلمه هو والجاهل سواء. |
سورة البقرة 103 ((وَلَوْ أَنَّهُمْ))، أي اليهود بدل اتّباع السحر ((آمَنُواْ)) حقيقةً ((واتَّقَوْا)) عن فعل المعاصي ((لَمَثُوبَةٌ))، أي ثواب ((مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ)) لهم في دنياهم وآخرتهم ((لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ))، لكنهم حيث لا يعملون بذلك فإنهم لا يعلمونه. سورة البقرة 104 ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ)) للرسول حين تكلمتم معه ((رَاعِنَا))، فإن راعنا في اللغة العربية من المراعاة والرعاية، ولكنها في لغة اليهود بمعنى "أسمعت لا سمعت"، فهو سب ودعاء على المخاطب، وقد كانت اليهود اغتنمت هذه الكلمة المتشابهة لسب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا العنوان، فكانوا يأتون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقولون له: "راعنا"، يريدون بذلك سبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنهى الله المسلمين عن هذه النقطة حتى لا يتمكن اليهود من التكلم بهذه الكلمة، ((وَقُولُواْ)) عوض ذلك ((انظُرْنَا))، أي انظر إلينا بنظرتك الرحيمة، ((وَاسْمَعُواْ)) أيها المؤمنون أوامرنا وأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ((وَلِلكَافِرِينَ)) من اليهود الشمّاتين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت ستار لفظة "راعنا" ((عَذَابٌ أَلِيمٌ))، أي مؤلم في الآخرة. سورة البقرة 105 ((مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) من اليهود والنصارى والمجوس ((وَلاَ)) من ((الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن)) قِبَل ((رَّبِّكُمْ))، سواء كان معنوياً كالنبوة والإرشاد والوحي أو مادياً كالغلبة والنصر والمال، ((وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء))، فليس إرادة الله تبعاً لإرادة الكفار والمشركين، ((وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، فليس فضله خاصاً بقوم من الكفار كما كانت اليهود تزعم أن النبوة فيهم دون غيرهم. سورة البقرة 106 ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ)) بأن نرفع حكمها، ونجعل مكانها حكماً آخر ((أَوْ نُنسِهَا)) بأن نرفع رسمها، ونبلي عن القلوب حفظها، والنسيان له <لا؟؟> يقع بالنسبة إلى القرآن الكريم وإنما بالنسبة إلى الكتب السالفة، ولذا لا يوجد كثير منها فعلاً، أما النسخ فإنه وقع بالنسبة إلى القرآن - على الأَشْهَر - وإلى غيره، ((نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) وإنما يقع النسخ والإنساء فيما يؤتى بالمثل، لأن المثل أصلح من المنسوخ والمنسي، فمثلاً إذا سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة أخرى مثلها في القيمة كما يأخذ درهماً من زيد ليعطيه بدله ديناراً، ((أَلَمْ تَعْلَمْ)) أيها اليهودي المنكر للنسخ ((أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم بالقرآن، وإنه إن كان كتابهم صالحاً فلماذا يُنسخ، وإن لم يكن صالحاً فلماذا أنزله الله تعالى، وقد كان الجواب أن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح وإما لعدم قدرة الله تعالى على النسخ، وكلا الأمرين مفقودان، فالمثل والأصلح موجودان، والله على كل شيء قدير. 107 ((أَلَمْ تَعْلَمْ)) أيها المنكر للنسخ ((أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))؟ فيتصرف فيما يشاء من الأوضاع والأحكام كيف يشاء. ((وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ))، أي من غير الله ((مِن وَلِيٍّ)) يلي أموركم ((وَلاَ نَصِيرٍ)) ينصركم، فهو سبحانه صلاحكم في النسخ والإنساء، فإن المصالح تختلف حسب اختلاف الأعصار والأشخاص، ولقد كان شأن آيات الله أن تنهض بالبشر مرتبة فمرتبة حتى وصلت النوبة لرسالة الإسلام، وهذه بُدلت بعض جزئياتها قبل تمامها وكمالها تحقيقاً للتناسق بين الرسالة وبين العصر حتى إذا كملت لم يبق مبرر أو تحوير بل تبقى إلى الأبد. سورة البقرة 108 ((أَمْ تُرِيدُونَ)) أيها المعاصرون للرسول من مسلم وكتابي ومشرك ((أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ)) أسئلة تعنت ولجاجة ((كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ))؟ حيث كانوا يقترحون عليه اقتراحات ويسألونه مُحالات، كقولهم لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فإن المعاصرين كانوا يسألون ما لا يعنيهم أو ما أشبه، كقولهم (أو تسقط السماء علينا كسفاً)، فقد زجرهم الله سبحانه لهذه الأسئلة التي لا ترتبط بمقام الرسول والرسالة من بعد ما تبين لهم الهدى، وقوله "رسولكم" لا يختص بالمؤمنين، إذ يكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ((وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ)) بأن يأخذ الكفر ويترك الإيمان الذي من مصاديقه الأسئلة التعنتية - إذ أنها من سمات الكفر والانحراف - ((فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ))، أي وسطة الموصل إلى المطلوب. سورة البقرة 109 ((وَدَّ))، أي أحب ((كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، اليهود والنصارى والمجوس ((لَوْ يَرُدُّونَكُم)) أيها المسلمون ((مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً))، فتكونون مثلهم ((حَسَدًا)) منكم كيف صرتم إلى حضرة الإيمان وتقدمتم في الحياة، وهذا الحب ليس من جهة أنهم متدينون فيأسفون عليكم لماذا تركتم الإيمان، بل الحب ((مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم)) تشبيهاً وحسب أهوائهم، أي أن مبدأ الحب هوى النفس لا الدين ((مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ))، فليس ذلك لجهلهم بدينكم وحقيقتكم، ((فَاعْفُواْ)) أيها المسلمون عنهم، ((وَاصْفَحُواْ)) عن أعمال الكفار، ولا تقابلوا إساءتهم بالمثل ((حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ))، فيأذن لكم في المبارزة والمقاتلة والمقابلة بالمثل، ((إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فيأتي يوم يجعلكم أقوياء فتتمكنوا من محاربة هؤلاء الكفار فيأذن لكم في المبارزة معهم. سورة البقرة 110 ((وَ)) أما فعلاً حيث لم يأت الله بأمره فـ((أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ))، ولا تبارزوا، ((وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم)) من إعطاء الزكاة وسائر الخيرات التي هي لأنفسكم لأنها تعود إليكم في الدنيا بالألفة وفي الآخرة بالثواب ((مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ)) يوم القيامة، ((إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، فلا يضيع شيء يصرف في وجهه ولا عمل يؤتى لأجله. |
سورة البقرة 111 ((وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى))، قالت اليهود لن يدخلها إلا النصارى، و"هود" جمع "هائد" كـ"عود" جمع "عائد"، ((تِلْكَ)) المقالة ((أَمَانِيُّهُمْ))، جمع "أمنية"، أي رغبتهم الكاذبة، ((قُلْ)) يا رسول الله لهم ((هَاتُواْ))، أي أحضروا وجيئوا ((بُرْهَانَكُمْ)) ودليلكم على ما تدعون ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في مقالتكم. سورة البقرة 112 ((بَلَى)) جواب سؤال تقديره أفليس يدخل الجنة أحد، ومن هو؟ فقيل: "بَلَى" ((مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ))، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، فإذا أسلمه الشخص فقد أسلم جميع جوارحه ((وَهُوَ مُحْسِنٌ)) في عمله ((فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))، فهو يدخل الجنة سواء كان يهودياً في زمان موسى أو نصرانياً في زمان عيسى أو مسلماً في زمان محمد أو من سائر الأمم في زمان أنبيائها (عليهم الصلاة والسلام)، وهكذا كلام معه دليله، إذ معيار الدخول في الجنة الإيمان والعمل الصالح، فلا يقال لمن يقول ذلك: "هاتك برهانك." سورة البقرة 113 ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ <وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ>)) من دين وإيمان وتقوى، فكل طائفة تجعل نفسها الناجية وغيرها الهالكة، ((وَ)) الحال أن ((هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ))، والتالي للكتاب لا يحق له أن يقول مثل هذه المقالة، إذ كل منهم يعلم أن صاحبه على بعض الشيء، فإن اليهود يعرفون أن النصارى لهم إيمان في الجملة، وكذلك النصارى يعرفون أن اليهود لهم إيمان في الجملة، ((كَذَلِكَ)) القول ((قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)) من الكفار ((مِثْلَ قَوْلِهِمْ))، وهذا تأنيب للطائفتين حيث صاروا كمن لا كتاب له وهو جاهل، فإن الجاهل يمكن أن يقول ليس اليهود أو النصارى على شيء لأنه يزعم بطلان كليهما، ((فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)) جميعاً ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وهناك يتبين لكل طائفة أنه على شيء أم لا، ((فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ))، ولعل تخصيص الحكم بهناك لأن هناك لا تبقى شبهة في الحكم، بخلاف حكمه سبحانه في الدنيا، فإن من لا يؤمن بالإسلام لا يعترف بحكمه. سورة البقرة 114 ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ)) وهي عامة لكل مانع وإن كان ينطبق على أهل مكة الذي منعوا الرسول عن المسجد الحرام وبخت النصر الذي منع عن بيت المقدس ((أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ))، أي لا أحد أظلم من هكذا شخص، والحصر المستفاد من الآية إضافي، وإلا فمن قتل الأنبياء أظلم، ((وَسَعَى فِي خَرَابِهَا))، خرابها معنوياً بمنع المصلين عنها أو خراب العمارة والبناء، ((أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ)) من عذاب الله سبحانه، فمن يسعى في خراب المساجد كيف يدخلها آمناً، أو خائفين من المسلمين أن يعاقبوهم، ((لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)) بالعقاب الإسلامي لمن فعل ذلك، أو إخبار بخزي عن الله سبحانه بمن يسعى في خراب المساجد، ((وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) حيث يذوق النار مهاناُ، ولعل في هاتين الآيتين أيضاً تلميح إلى فعل اليهود بمنعهم عن المساجد. سورة البقرة 115 ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)) فكلتا الجهتين له سبحانه خلقها، وهما ملك له وحده، ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ)) وجوهكم ((فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ))، وجه الله جانبه، أي إن الله سبحانه محيط بالعلم والقدرة على كل ناحية، فإذا توجه الإنسان إلى المشرق فقد توجه إلى الله، وإذا توجه إلى المغرب فقد توجه إلى الله، وليس الله جسماً حتى يكون له مكان معين يلزم التوجه إليه، ((إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ)) علماً وقدرة لأنه محيط بجميع الجهات، ((عَلِيمٌ)) بما يفعله الإنسان من التوجه إلى أية ناحية، وربما قيل بأنها نزلت في رد اليهود الذين قالوا: كيف انصرف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة؟ سورة البقرة 116 ((وَقَالُواْ)): (اليهود عزير بن الله)، والنصارى قالوا: (المسيح ابن الله)، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، ((اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا)) إما بأن أولده كما زعم بعضهم أو اتخذ بعنوان التبني، ((سُبْحَانَهُ))، أي أنزهه عن ذلك تنزيهاً ((بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))، فكيف يكون المملوك ولداً، إذ الولد ليس ملكاً للوالد، ثم أن الملك تحت التصرف فالتبني لماذا؟ ((كُلٌّ))، أي كل من السماوات والأرض ((لَّهُ)) تعالى ((قَانِتُونَ))، أي خاضعون ومطيعون. سورة البقرة 117 ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي مبدعهما ومنشئهما وخالقهما، وهذا تأكيداً لما في الآية السابقة من أن (له ما في السماوات والأرض)، ((وَإِذَا قَضَى أَمْراً)) وأراده ((فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ))، أي لذلك الأمر المراد ((كُن))، أي يأمره بأن يوجد ((فَيَكُونُ))، أي فيوجد عقيب أمره، فالكون بهذا النحو طوع إرادته وأوامره. سورة البقرة 118 ((وَ)) بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب ومنعهم - وسائر المشركين - عن المساجد وشركهم في باب التوحيد، تعرض القرآن الحكيم حول كلامهم بالنسبة إلى المراسلة فقال: و((قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)) موازين الوحي والرسالة ((لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ))، أي هلّا يكلمنا ربنا بأن يأمرنا بأوامره بدون احتياج إلى الوسيط، أو يكلمنا بأنك نبي، ((أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ)) ومعجزة حسب اقتراحنا، ((كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم)) لأنبيائهم ((مِّثْلَ قَوْلِهِمْ)) ، فقال لموسى (عليه السلام) أرنا الله جهرة، ((تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)) في الإنكار والعتب في الاقتراح والتعنت، ((قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ))، فلا حاجة إلى تكليم الله، ولا إلى الإتيان بخوارق اقترحتموها، وإذ كان مرادهم غير ذلك فليس على الله إلا إتمام الحجة ((لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))، إنما خصهم لأنهم الذين يستفيدون منها وينتفعون بها. سورة البقرة 119 ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يا رسول الله ((بِالْحَقِّ)) تأكيداً للإرسال، إذ كل إرسال الله تعالى بالحق ((بَشِيرًا)) تبشر المؤمنين المطيعين ((وَنَذِيرًا)) تنذر الكافرين والعاصين، فأنت رسولنا وإن كانوا يشكون في رسالتك، ويسألونك عن أشياء تافهة، ((وَلاَ تُسْأَلُ)) أنت ((عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ))، فلست أنت مكلفاً عنهم، وإنما عليك التذكير فقط. |
تم الجزء الأول من الموضوع ببركة الصلاة على محمد وال محمد
للإنتقال إلى الجزء الثاني من الموضوع من هـــــــــــــــنـــــــــــــــا |
وفقكِ الله الى كل خير على هذا المجهد الجميل
موفقه بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . |
امين يا رب العالمين شكرا جزيلاً اخي على طلتك مشكوووووووووور
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نسال الله لكِ كل التوفيق بحق القران على هذه الجهود المباركة اللهم اجعل القران ربيع قلوبنا وارزقنا فهمه والاعتبار من اياته |
تسلم اخي ابو احمد
مشكوووووور على المرور |
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته احسنت اختي الفاضلة على المعلومة المفيدة و القيمة اطلالة اكثر من الرائع جزاك الله الف الف خير في ميزان حسناتك..... |
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
|
مشكوووووووووووور اخي الاستاذ على مرورك
|
رد: تفسير سورة البقرة كاملة
بسم الله الرحمن الرحيم
مأجوره |
All times are GMT +3. The time now is 11:15 PM. |
Powered by vBulletin 3.8.7 © 2000 - 2025